للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومعلوم أن العلماء جعلوا المصالح على أنواع منها: مصالح معتبرة يؤخذ بها وهي ما دل الدليل على اعتبارها وجوازها وحليتها ودعا إليها ومصالح ملغاة لا اعتبار ولا ميزان لها وهي ما جاء النص صراحة بإلغائها كما حرم الخمر مع اشتماله على بعض المصالح وهي مصالح ملغاة بنص الشارع الحكيم وأصحاب هذه المدرسة يصرحون ـ كما سوف يأتي ـ باعتبار المصالح الملغاة ويضربون بالنصوص الشرعية التي جاءت مصادمة لهذه المصالح عرض الحائط فيصبح الدين تبعا لهوى وما تمليه الشهوات والأهواء لا عبودية لرب الأرض والسماء ...

ثم نحن نتساءل أخيرا: إذا كان العقل له الصلاحية الكاملة والأهلية التامة ـ كما يعتقد الليبراليون ـ في أن يستقل بإدراك المصالح والمفاسد بعيدا عن نور الوحي فما الفائدة إذا من إنزال الكتب وإرسال الرسل؟! كما أن هذا الاعتقاد قد يقودهم إلى أمر خطير للغاية ألا وهو: اتهام الله ـ جل وعلا ـ بالعبث في أفعاله وتقديره ـ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ـ ذلك لأن من غايات إنزال الكتب وإرسال الرسل تعريف الناس بالشر والخير وبيان المصالح والمفاسد لهم (١). فإذا كان العقل البشري يستقل بمعرفة ذلك ـ كما يعتقد كثير من الليبراليين ـ كان إنزال الكتب وإرسال الرسل حينئذ ـ لا طائل من ورائه ولا جدوى فيه وهذا هو حقيقة العبث الذي يتعالى الله عنه علوا كبيرا.

إن هذه المفاسد الخطيرة الناجمة عن اعتقادهم باستقلال في إدراك العقل وفي إدراك المصالح والمفاسد تكفي العاقل المنصف في بيان فساد هذا الاعتقاد وانحرافه عن جادة الصواب.

أقوال الليبراليين في هذا الجانب:

أما أقوال الليبراليين التي تبرهن على أنهم يقدمون المصلحة المزعومة على النص الشرعي فهي كما يلي: أـ يقول مشاري الذايدي: " نحن مطلوب منا أن نمارس السياسة وفق مصالحنا وحيث ما كانت المصلحة كان دين الله هكذا أفهم الأمور هكذا أفهم الأمور" (٢).ب ـ يقول محمد المحمود: " ما نحتاجه الآن: قطيعة نوعية مع تراث بشري تراكم على مدى أربعة عشر قرنا يقابله اتصال خلاق بالنص الأول في مقاصده الكبرى وليس مجرد ظاهرية نصوصية لا تعي ما بين يديها ولا ما خلفها" (٣).

ـ دعوى تعدد قراءات النص الواحد: يعتقد الليبراليون أن النص الشرعي له قراءات متعددة وتفسيرات متنوعة وكلها صحيحة وهذه العقيدة من الفساد بمكان لأنها تفتح الباب على مصراعيه لكل مبطل أن يستدل على مذهبه الفاسد من النص الشرعي بدعوى (تعدد قراءات النص) ولا ريب أن هذا أصل خطير يسوغ زندقة كل متزندق وكفر كل كافر فالباطني مثلا الذي يفسر قول الله تعالى إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً [البقرة: ٦٧] بأنها عائشة ـ رضي الله عنها ـ بناء على ذلك الأصل قوله حق والذي يقول: إنها البقرة المعروفة قوله حق. (٤).ويطلق بعض الأئمة على هذا الأصل (دعوى عدم إفادة النص للعلم واليقين) (٥).


(١) مثل محمد أركون، وحسن حنفي، ونصر حامد أبو زيد وخليل عبد الكريم، والعفيف الأخضر، وسيد القمني ونوال السعداوي، وأحمد البغدادي ومحمد عشماوي، وطارق رمضان، وغيرهم.
(٢) نشأ الحزب أولا في اسطنبول ثم نقل مركزه إلى باريس، وأصدروا جريدة لكن الحزب انحل بعد ١٨٧١م عندما سمح لزعمائه بالعودة من المنفى. انظر: ((الفكر العربي في عصر النهضة)) (ص٩١).
(٣) ((أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك)) (ص ٩٨).
(٤) انظر: ((تركيا الفتاة)) (ص٣٩)، نقلا عن ((العلمانية وآثارها على الأوضاع الإسلامية في تركيا)) (ص١٩٠)
(٥) أبرز أعضاء الوفد: مصطفى فهمي، سعد زغلول، أحمد لطفي السيد، مصطفى النحاس، وغيرهم. وقد ذهب الوفد للتفاوض مع بريطانيا لنيل الاستقلال.

<<  <  ج: ص:  >  >>