فقد صادف دعاة القومية في بناء قومياتهم على الأرض المشتركة متاعب وتناقضات جمة وذلك أن الذين يتكلمون لغة واحدة وفوق أرض واحدة ليس بالضرورة أن يكونوا كلهم من جنس واحد وعلى لغة واحدة من البداية إلى النهاية في أي أرض فقد تنشأ لغة جديدة في بلد وتنتهي عن بلد لأمور كثيرة اعتقادية أو سياسية إذ لا يمكن لأي أمة أن تدعي أنه لا يوجد لأي شخص بينهم انتماء إلى غيرهم ومن الأمثلة القريبة على ذلك الأمة العربية قبل الإسلام وبعده إذ أنه قبل الإسلام كانت الأرض العربية هي شبه الجزيرة ولكن بعد مجيء الإسلام دخلت أمم أخرى في الإسلام وحين أن الإسلام لا يشعر أحد بأنه غريب عنه وأن الأرض كلها مخلوقة لأجله فقد دخلت تلك الأمم في الإسلام وأحبوه وأحبوا لغته وصارت هي اللغة الأساسية بينهم كمصر والمغرب وغيرهما من البلدان التي أصبحت عربية تعتز بدينها ولغتها فهل يقال أن الأرض هي التي وحدت بينهم وبين سائر إخوانهم العرب المسلمين إن قالوا هذا فقد ظهر كذبهم وإن قالوا إنه الإسلام فقد قالوا بالحقيقة التي تناقض دعواهم صلاحية التجمع القومي على الأرض بدلا عن الإسلام.
بل كان الجاهليون العرب أفقر منهم لأن هؤلاء ما كانوا ينادون لا بالقومية العربية ولا بالتحزب والتعصب لها وحينما جاء الإسلام لم يذمهم على عدم شعورهم بأنهم على أرض العروبة وإنما أخذ بأيديهم إلى ما فيه صلاحهم وعزهم وهو الشعور بالفخر بالإسلام وتعاليمه وأن العرب قد جاءهم ما يحفظ وحدتهم في اللغة والأرض والتاريخ وسائر الاتجاهات فكانوا في جهادهم يدعون الناس إلى الدخول في الإسلام لا إلى الإنضمام إلى العربية أو إلى شبه الجزيرة العربية.
ولو أن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت موجهة من أول يوم إلى التعصب للعروبة والقومية وما إلى ذلك لسارع كل العرب إلى الالتزام بذلك والترحيب بها بسبب ما كانوا يحسون به من ضعف عام وتشتت وتمزق في الآراء والأفكار والأنظمة.
فكانوا في حاجة إلى أي شخص يتزعمهم على أي نعرة جاهلية ليحققوا به مبادئهم انصر أخاك ظالما أو مظلوما. وليحققوا به شيم النفوس حينما توغل في الظلم كما قال شاعرهم:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعله لا يظلم
فكانوا لا ينقصهم إلا الشخصية المؤهلة لتتزعمهم، لأن الشجاعة موجودة والإحساس بالفوضى في حياتهم موجود وكذا الإحساس بالظلم الفادح بل إن الإحساس ببعدهم عن ربهم كان موجودا وما عبادتهم للأصنام إلا لتقربهم إلى الله زلفى بشفاعتها لهم لشعورهم بالذنوب والتقصير في جنب الله تعالى وكثير منهم كان يعلم أن شريعة "من عز بز ومن غلب استلب" ليست هي الطريق الصحيح وأن ما هم فيه من الذل لغيرهم والفقر الشديد والحروب المستعرة.
وأحيانا على بكر أخينا إذ ما لم نجد إلا أخانا
كانوا يشعرون بأنها أوضاع فاسدة لا يمكن أن تصلحها لا القومية ولا الوطنية ولا سائر النعرات الجاهلية. وإنما يصلحها أمر لا يمكن أن يأتي من قبل الإنسان الظلوم الجهول وحينما عرفوا الإسلام وجدوا الحقيقة التي كانت تنقصهم ولا يعرفون الطريق إليها.