وإذا كان مؤتمر المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة حاول أن يناقش البعد الثقافي للقضية, وخطورة "العولمة" على الثقافة العربية إلا أن الوجوه التي دعيت للمؤتمر وقدمت أبحاثا كانت من المؤيدين لـ "العولمة" لأنها "انفتاح على ثقافة الغير".
وانصب اهتمام المؤتمر في الأساس على "العولمة والهوية الثقافية" أما ندوة "العولمة والاتجاهات المجتمعية في الوطن العربي" المنعقدة في القاهرة فقد انصب اهتمامها في الأساس على البعدين الاقتصادي والاجتماعي واهتمت كما جاء في الدراسة التي أعدها المفكر الاقتصادي سمير أمين على "تحليل العولمة وتأثيراتها وآلياتها" وناقش المسألة من منظور أيديولوجي, وقدمت الندوة رؤية لمناخ العصر ... وإن كانت انصبت على محاكمة النظام العالمي الجديد, والقوة المهيمنة على العالم وتمركز الحضارة الرأسمالية حول أفكار اقتصادية.
الأمر الذي انعكس - بالطبع- على الهيمنة الرأسمالية على الجوانب السياسية والثقافية والاجتماعية ولكن المؤتمر أغفل الجوانب الاجتماعية للعولمة وآثارها على حياة الشعوب وقيمها وسلوكياتها.
وبغض النظر عن دفاع البعض المستميت عن "العولمة" وتحفظ البعض اللامحدود عليها فإن لـ "العولمة" أبعادها السياسية التي ستنعكس حتما على العالم الإسلامي.
فالعولمة في الأساس نتاج انهيار نظام عالمي كان يقوم "القطبية الثنائية" بانهيار أحد أقطاب النظام - وهو الاتحاد السوفيتي – بل وزواله تماما بانتهاء الحرب الباردة وسيادة قطب واحد أخذ يسيطر على هذا العالم سياسيا وعسكرياً, الأمر الذي أحدث هوة عميقة وخللاً كبيراً في المنظومة السياسية العالمية, وفي ظل عدم التكافؤ في القوة والإمكانات بدأ الخلل يظهر, ولمعالجة هذا الخلل وجدنا من يبشر بقيام نظام عالمي جديد قوامه "سيادة حقوق الإنسان" و"الحرية الديمقراطية" و"دور أكبر ومؤثر للأمم المتحدة في حل المنازعات سلميا" وظهرت آثار هذا النظام في إنهاء التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا ونهاية حكم الأقلية البيضاء وبداية حكم الأغلبية السوداء, وبدأ يذوب الجليد بين واشنطن وبكين بعد عداوة طويلة, وأخذت واشنطن تلعب الدور الأكبر في صنع السياسة الروسية, ونجحت في "تطويع" الكرملين بتنصيب يلتسين رئيسا ودعمه وتأييده بلا حدود.
وأخذت معالم النظام العالمي الجديد تتضح أكثر وتأخذ أبعادا متناقضة, فالشرعية الدولية تتدخل لتفرض قوانين وقرارات الأمم المتحدة في مكان وتتغاضى عن تنفيذ هذه القوانين في مكان آخر, فتحكمت "المصالح الدولية" في تسيير دفة هذا النظام, وتحكمت الشركات متعددة الجنسيات في صنع القرار السياسي, فهناك أكثر من (٢٠٠) شركة متعددة الجنسيات هي التي تصنع اليوم القرار السياسي. وظهرت سياسة "الكيل بمكيالين" حيث يكيل النظام العالمي الجديد بمكيالين حيث يطبق قرارات الأمم المتحدة بحذافيرها في مكان, ويتجاهل تماما القرارات الدولية في مكان آخر, الأمر الذي دفع د. كلوفيس مقصود مدير مركز عالم الجنوب في الجامعة الأمريكية في واشنطن إلى وصف "هذا النظام الجديد بالفوضى" وقال: "لا هو نظام عالمي ... ولا هو جديد ... بل هو فوضى متميزة بنزاعات إقليمية تعيد إلى الواجهة تيارات فكرية كنا اعتقدنا أنها مر عليها الزمن" (١).
(١) انظر: ((ندوة الإسلام والحداثة)) (ص: ١٥٠) فما بعدها و ((الندوات الفكرية في المهرجان الوطني للتراث والثقافة السادس)) (ص: ٩١ـ ١٣٦).