حقا إن القوة المادية لأمريكا من الضخامة بحيث يصعب حتى على القوى العالمية الأخرى مجاراتها أو التصدي لها، ولكن القوة المادية ليست هي في النهاية التي تقرر مصاير الأمم، أو على الأقل ليست وحدها التي تقرر مصايرهم .. وحين يتفشى الترف، ويتفشى الترهل (مما نبه إليه كلنتون ذاته في كلمات وجهها إلى شعبه) وحين تتفشى الفوضى الجنسية والشذوذ والانحراف، ويتعالن الشواذ بشذوذهم ويطلبون من دستورهم وبرلمانهم أن يقر بشرعيتهم وشرعية سلوكهم المنحرف .. وحين تتفشى الخمر والمخدرات والجريمة .. فكل ذلك من عوارض الدمار، مهما كانت القوة المادية ..
ولسنا نقول إن أمريكا ستنهار غدا صباحا! فإن ما لديها من عوامل القوة الإيجابية يمكن أن يمد لها فترة من الزمن بحسب سنة الله. ولكنا نقول - فقط - إن هذا الأمر لا يتوقع كثيرا أن يطول.
وأما إن كانت العولمة يهودية، تعمل من خلال أمريكا، وهو الأرجح في نظرنا، فلليهود في كتاب الله وعد ووعيد: وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ... [الإسراء:٦]
ويستوي - كما أشرنا من قبل - أن تكون المرتان المذكورتان تاريخيتين، أو تكون إحداهما تاريخية والثانية هي الواقعة اليوم .. فقوله تعالى: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا فيه الفيصل فيما نحن بصدده. فالآيات تقول إنه كلما علا اليهود في الأرض وأفسدوا - سواء مرة أو مرات - جاء العقاب الرباني فأنزلهم من علوهم وأجرى عليهم وعيده: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف: ١٦٧]
وهم اليوم في قمة العلو .. ولم يسبق لهم في تاريخهم كله أن علوا وسيطروا بمقدار ما لهم اليوم من العلو والسيطرة في أرجاء الأرض.
والله هو الذي يقدر، وله حكمته في تقديره سواء عرفنا نحن الحكمة أم لم نعرفها.
وله حكمة ولا شك في الإملاء لليهود وتمكينهم في الأرض: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ .. [آل عمران:١١٢]
فهم ممكنون بحبل من الله ابتداء، أي بتقدير من الله وإمداد، ثم بحبل من الناس الذين يعينونهم على تنفيذ مخططاتهم.
أما الحكمة في ذلك فلا نعرفها، لأنها ليست مذكورة في كتاب الله ولا في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن ربما كان الله يعاقب البشرية التي كفرت اليوم كفرا لم تكفره من قبل، فأنكرت وجود الله (في جزء غير قليل منها) وشردت عن هديه (في الجزء الأكبر منها) ويعاقب الأمة الإسلامية بالذات على تفريطها وتقاعسها .. يعاقب الجميع بتسليط اليهود عليهم تحقيقا لقوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:٦٥]
وأيًّا تكن الحكمة فالذي يهمنا هنا أن هذا العلو والإفساد في الأرض محدود بزمن معين يقدره الله، وليس طويل الأمد، لأنه استثناء من القاعدة، وليس هو القاعدة، وإن تكن القاعدة من تقدير الله، والاستثناء كذلك من تقدير الله ..
وليس معنى هذا كله أن العولمة أمر هين ولا خطر منه، ولا يستأهل منا اهتماما ولا حركة ..
إنه عاصفة جائحة هوجاء .. والعاصفة تهدأ بعد حين، ولكنها تكون قد دمرت ما دمرت، وخربت ما خربت، مما قد يحتاج في إصلاحه إلى عشرات السنين .. وإنما نقول للناس في العالم الإسلامي تحصنوا قدر الطاقة من العاصفة الهوجاء. تحصنوا أولا بالتمسك بدينكم وأخلاقكم وثوابتكم، ثم تحصنوا ثانيا ببذل أقصى الجهد في تحصيل العلم والتقنية وزيادة الإنتاج، لعلكم بذلك تقللون آثار الدمار الذي تخلفه العاصفة.
ثم نقول لهم كما قال موسى عليه السلام لقومه وهم في أتون الابتلاء: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: ١٢٨].
المصدر:المسلمون والعولمة لمحمد قطب