ثم أقبلت أوائل العرب في آثارهم. فلما رآهم جيلوش وأصحابه زحفوا إليهم، فرشقهم ذلك الرجل - وجيلوش ينظر فلم يصيبوا من العرب أحدا: فقال الرجل لجيلوش: ألا ترى أن ما أخبرتك به. ثمولوا منهزمين، ومرت أوائل العرب على آثارهم، وأمامهم عمرو بن معدى كرب وقيس بن هُبيرة المكشوح المرادي، وطُليحة بن خُويلد الأسدي، وجرير بن عبد الله البُجلي، حتى انفرد جرير ابن عبد الله عن أصحابه في نفر يسير، فلما نظر العجم إلى قلتهم عطفوا عليهم وحملوا على جرير فطعنوه فسقط عن فرسه، فلم تعمل فيه الرماح لحصانة ردعه، وعاد فرسه فلحق بالفل، وتلاحق جرير بأصحابه من بُجيلة، وحالوا بينه وبين العجم، فانهزمت العجم عنهم، وأقبل إلى جرير بعضُ أهل بيته ببرذون من برذان العجم مضروب بالسف على كَفَله، وقال اركب أبا عمرو: فقال جرير: والله لا تتحدث العرب أني ركبت بِرذوناً مضروب الكفل بالسيف، وأقبل عليه بعض بني عمه ببرذون من براذين العجم مطوق بطوق من ذهب، وقال: اركب أبا عمرو. فقال: مثل هذا فنعم، فركبه وطلب القوم، فقتل من أدرك منهم، حتى أمعنوا في الهرب، ومرت العجم على وجهها هاربين منهزمين، حتى وافوا المدائن، فسقط في يد يزدجرد الملك، فتحمل من المدائن بأهله وحشمه وولىّ الحرب مرداتشاه أخا رستم المقتول، وسار حتى أتى مدينة نَّهاوَند. فأقام بها.
وجمع سعد بن أبي وقاص أصحابه، وجميع قُوَّاده، وسار بالناس من القادسية حتى نزل بحذاء المدائن على شاطئ دِجلة، فعسكر هنالك حتى استعد، ونادى في العرب فركبوا خيولهم، ولبسوا أسلحتهم، ثم أقحموا خيولهم دجلة ليعبروا إلى المدائن، وقال لهم: إن الذي سلمكم في البرِّ قادر أن يسلمكم في البحر. وخرج مرداتشاه خليفة الملك يزدجرد في الليل هربا، وألقى الله الرعب في قلوب العجم فانهزموا وتركوا المدائن، وأخذوا نحو نهاوند - وفيها يَزدجرد الملك - حتى انتهوا إلى جلولا، فأقاموا بها، وكان يزدجرد يمددهم في كل يوم بالأمداد من نهاوند، وولى الحربّ رجلا من عظماء المَرَازَبة يسمى خُرزاد، ودخل المسلمون المدائن فغنموها، وما كان فيها من خزائن الأكاسرة من الأموال وآتيه الذهب والفضة والأثاث، وكان الرجلُ منهم تقعُ في يده الصفحة فينادي: من يأخذ حمراء ويعطي بيضاء. ووقعوا على بيوت مملوءة كافورا وعودا، فظنوا أن ذلك الكافور ملح، فجعلوا يلقونه في العجين فيخرج الخبز مُرَّا كالعلقم، فيقولون ما أمرّ ملحهم، ووقعوا على تاج كسرى بن هرمز وهي في يمينه فبعث بها سعدٌ إلى عُمر فأمر بها عمر فحملت إلى مكة، وعلقت في الكعبة، وهي فيها إلى الآن. ولما أن نصر الله المؤمنين بالقادسية، وقتلوا العجم وهزموهم، واستباحوا سوادهم، كتب سعدُ بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه كتابا هذه نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله عمر أمير المؤمنين من سعد بن مالك، سلام عليك فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، واسأله أن يصلي على محمد وآله. أما بعد فإنا لقينا جموع العجم بالقادسية، وهم في عدد وعدة. يقصر عنها الوصف فقاتلناهم قتلا شديداً لم يسمع السامعون بمثله، من لدن طلوع الشمس إلى أن توارت بالحجاب، فأنزل الله علينا نصره، وثبت أقدامنا، فضرب الله تبارك وتعالى وجوه العجم، ومنحنا أكتافهم فقاتلناهم في كل فج عميق، وعلى شاطئ كل نهر لإاحمد الله يا أمير المؤمنين على إغزاز دينه، وإظهار أوليائه، وقُتل من المسلمين ناس كثير صالحون، لو رأيتهم قبل الوقعة لسمعت لهم في صلاتهم دَوَيَّ اكدوي النحل من قراءة القرآن، فاحتسبهم يا عمر رحمك الله، فقد حَلّت فيهم المصيبة وعظمت وقد أصبنا ما كان في عساكرهم من سلاح وكراع، وأثاث وذهب وفضة، وغيرها محصية، وكاتب إليك بمبلغ الخمس منه والسلام.