للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يا معشر العرب، ماذا تنتظرون بصاحبكم؟ أدركوه قبل أن يقتل، واحملوا معي حملة رجل واحد فداكم أبي وأمي لتُخلصوه بإذن الله. ثم حمل قيسٌ وحمل معه عامة الناس حملة رجل واحد، فزحزحوا من كان في وجوههم ما العجم حتى انتهوا إلى عمرو - وهو يضاربهم - قدما - وقد اختصب بالدماء - فلما نظر عمرو إلى اصحابه استبشر، وتناول رجلٌ من العرب فرس فارس من العجم فحبسه، وجعل الفارس يضرب فرسه فلا يستطيع براحاً من يدي عمرو، فلما نظر الفارس إلى العرب قد أرهقته نزل عن الفرس وولى هاربا. فقال عمرو لأصحابه: امسكوا أنتم على عنانه، فأمسكوا عليه العنان، فأستوى عليه وحمل معه، فدخل في القوم حتى انتهى إلى فيل من تلك الفيلة، فضرب مِشفره فَبَراه، وولى الفيل وله صياح، وانهزم من كان معه من الفيلة ومن العجم، فلما رأى رُستم ذلك نادى في أبطال العجم وفرسانهم، فأحدقوا به، فحمل على المسلمين وحملوا معه، وحمل عمرو بسيفه المعروف بالصّمصامة على القوم يضاربهم به، ثم حمل رُستم على هلال بن عقبة - وكان من أطال العرب - فضربه على خده فقطعها مع الدرع إلى الجلد، وشدها هلال بن عقبة إلى قربوس سرجه، وجعل يقاتل بها، فلم يزالوا كذلك من طول النهار إلى وقت العصر، ثم تنادت القبائلُ على الموت - من كل مكان - وزحف أصحاب الرايات من العرب - وقد وطنوا أنفسهم على الموت - وتبعتهم جميع القبائل، وحملوا على العجم حملة رجل واحد فأزالهم عن مواقفهم، فلما رأى رُستم ذلك تَرجَّل وتَرجلت معه جميع العجم، وحمل الفريقان بعضهم على بعض، فتضاربوا بالسيوف والأعمدة، حتى تقمصت عامة السيوف وتقصفت عامة الأعمدة، وقتل من الفريقين - وقت المساء - مقتلة عظيمة، ونادى قيس بن هُبيرة في الناس: ألا يا معشر العرب، روِّحوا بنا الجنة، فاحملوا على القوم، فإنه لم يبق إلا آخر نفس. ثم حمل قيسُ بن هبيرة، وحمل معه الناس، وأمامهم عمرو بن معدى كرب حملةً صادقةً، فقتلوا في حملتهم تلك من العجم مقتلة عظيمة، فولت العجم منهزمة، وثبت مع رُستم أهل الوفاء والحِفاظِ من أصحابه، فشدّت عليهم العربُ بأسيافهم - وأمامهم عمروُ بن معدى كرب - فقتل رُستم وقتل من ثبت معه من مَرَازِبته وأبطال جنوده - في ربضة واحدة - ومرت العرب في إثر العجم يقتلون من أدركوا منهم. إلى أن حال بينهم الليل، فانصرفوا نحو القصر الذي فيه سعد بن أبي وقاص، فخرج سعد بن أبي وقاص من القصر إلى أصحابه فرحا بِهجاً حتى أتى المعركة، وأمر بطلب رستم بين القتلى، فوجدوه وبه نحو من عشرين ضربة، كلها في مقاديمة، لأنه باشر الحرب بنفسه، ويقال: بل انهزم عند مقتل أصحابه حتى انتهى إلى نهر القادسية ليجوزه فغرق - والله أعلم أي ذلك كان وقال سعد بن أبي وقاص في ذلك شعرا:

لقد أبلت بجيلة غير أني ... أؤمل أجرهم يوم الحساب

لقد لَقِيت جُمُوعهم أسودا ... فما حاموا لمختلف الضِّراب

ولم تزل العجم تركض خيولهم منهزمة طول تلك الليلة، وأتبعتهم من العرب عالمٌ عظيم، حتى إذا أصبحوا أشرفوا على مردا قد أقبل إلى العجم من قبل الملك يزدجرد زهاء جمسة الآف من الفرس، وعليهم قائد لهم يقال له جيلاش، فلما استقبل المنهزمين قال: قفوا وموتوا كِراما، وقد طمعوا وشربوا وعلفوا دوابهم وأراحوها. ثم أقبل عظيم من عظماء الفُرس فقال: انج بنفسك وبأنفسنا معك قبل أن نقتل: فإن هذا أوان زورال المُلك عنَّا. فأبى جيلوش أن ينصرف أو يدع أحد من الفرس أن يمضي. فقال الرجل لجيلوش: انظر إلى هذا الرَّمي ثم حلق بكُرةٍ نحو السماء، فكانت الكُرة كُلما هبطت رماها بنشابة فتحلقها في الهواء حتى صارت الكرة كهيئة القُنفذ. فقال:هل رأيت رميا أحسن من هذا؟ قال جيلوش: ما رأيت. فقال الرجل: سأريك أن هذا الرمي لا يغني في القوم شيئا.

<<  <   >  >>