قال: فلما كان من وقعة جلولاء ما كان وانهزمت العجم حتى كانت هزيمتهم إلى نهاوند - وبها الملك يزدجرد - فعند ذلك تحمل من نهاوند في حرمه وحشمه وما اجتباه من خزائنه وسار حتى نزل قُم فأقام بها، ووجه إلى الآفاق من أرضه، وأقطار بلاده يستجيشهم، فغضبت له العجم، وانجفل إليه الناس من أقطار البلاد، وأتاه مَدَدٌ جُرجان وَقومس وطبرستان والرَّي ودبناوند، ونهاوند وقُمٌ وأصبهان وهمدان والماهين وأذربيجان، فاجتمع عنده من الناس زُهاء ثلاثمائة ألف رجل من فارس وراجل، فتعاقدوا وتواثقوا على الصبر في الحرب حتى يظفروا أو يموتوا، وولى الملك عليهم مردانشاه أخا رُستم المقتول بالقادسية، وأمره بالمسير إلى نهاوند، والمقامبها إلى أن توافيه جميع العرب فيحاربهم، وأقام الملك ينظر ما يؤول إليه الأمر، وقد كان عُمر بن الخطاب رضي الله عنه عزل سعد بن أبي وقاص عن ثغر الكوفة، واستعمل عليها عمار بن ياسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب عمار بن ياسر إلى عمر من الكوفة يخبره بكثرة ما أجتمع من العجم بنهاوند، وما تعاقدوا عليه وتواثقوا من الصبر حتى يموتوا أو يظفروا، فلما انتهى كتابُ عمار إلى عمر أقبل حتى أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم - والكتاب بيده - وأمر مناديا فنادى في الناس فاجتمعوا اليه، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم فال: أيها الناس، إن الشيطان قد جَمَع جُموعا من العجم ليطفئ نور الله، والله مُتم نوره. هذا كتاب عمار بن ياسر، يذكر فيه أن يزدجرد ملك العجم وجَّه رُسله إلى أقطار الأرضين وأطراف البلدان، فارتحلت إليه الناس من جُرجان وطبرستان والرّضي ودنباوند ونهاوند وأصبهان وقُم وقاشان والماهين وهمدان حتى أجتمع إليه زهاء ثلاثمائة ألف رجل، وأنهم قد تعاقدوا وتواثقوا على الموت عن آخرهم أو يظفروا. ولست آمن أن يسيروا إلى إخوانهم بالكوفة والبصرة فيقتلوهم أو يخرجوهم من أرضهم، ويسيروا إلى بلادكم فيجتاحوكم، فأشيروا علي وأوجزوا، فإن هذا يوم له ما بعده. فتكلم طلحة بن عبد الله فقال: يا أمير المؤمنين، إن التجارب قد حنكتك. والأمور قد احكمتك، وأنت الوالي مهما أمرتنا به لم نعصيك، وما رأيت من شئ لم نُخالفك، ومتى تدعنا نُجب، ومتى تأمرنا نُطع رأيك، فأمرنا بأمرك. فقال أيها الناس، أشيروا عليّ برأيكم وأوجزوا. فتكلم عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: الرأي يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل اليمن فيسيرون من يمنهم، وإلى أهل الشام أن يسيروا من شامهم، والى أهل البصرة أن يسيروا من بصرتهم، ويجتمع إليك من الجنود من آفاق الأرضين وأقطار البلاد، وسير بنفسك حتى توافي الكوفة، وينضم إليك المصرين، ثم تزلف إلى القوم فتلقاهم - وقد اجتمع إليك من العرب كأعدادهم - وإن العرب رأوك نُصب أعينهم كام ذلك أعز لهم، وأقوى لظهورهم، وأصدق في جهاد عدوهم، فإنه لا بقاء بعد إخواننا بالمصرين. فقال عمر لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ما ترى أنت يا أبا الحسن؟ فقال علي: إنك إن أشخصت العرب من اليمن سارت اليهم الحبشة فقلبوا على أرضهم، وإن أخليت الشام من جنودك سارت إليهم الروم فغلبوا عليها واجتاحوا أهلها وأولادها، وإن سرت من هذه البلدة انتقصت عليك الأرض من أقطارها وأطرافها حتى يكون ما تخلف وراءك من النساء والذرية أهم إليك مما بين يديك، وإن العجم إذا رأوك عيانا نُصب أعينهم قالوا هذا ملك العرب كلها، وفرعها وأصلها، فيكون أشد لقتالهم وأصعب لمزاولتهم، فما خوفك من مسيرهم إلى أخواننا بالمصرين حتى يجتاحوهم ويسيروا بجموعهم نحوك، فإن الله لم يجعل لهم إلى ذلك سبيلا أبدا، لأنه يقول تبارك وتعالى - وقوله الحق هو الذي أرسل بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وإنا لم نقاتل الناس فيما مضى بالكثرة، وإنما قاتلناهم بنصرة النبوة.