والمهلب، وهو الذي احتاج اليه الناس إلى عزمه وشجاعته مع كثرة رجالات تالعرب، إذ عجزوا عن موضعه، وذلك في وقت قيام الشراة في الفتنة ابن الزبير وعبد الملك بن مروان، فبلغت حينئذ قطري بن الفجاءة واصحابه وجميع الخولرج على بلاد فارس والاهواز، حتى وصلوا إلى سواد البصرة، قبل ذلك بثلاثين هزيمة، وألقوا بأيديهم، فكان أهل البصرة على حالتين: إما أهل القوة فتحملوا بنسائهم وذراريهم إلى البوادي، واما أهل الضعف، فوطنوا انفسهم على القتل وسبي الذراري، وكانت الازارقة ترى السبي والقتل.
ثم اجتمع رأي جميع أهل البصرة، انه لا يخلصهم مما وقعوا فيه الا المهلب، فأتوا إلى عاملهم، حارث بن عبيد الله بن أبي ربيعة المخزومي، الملقب بالقناع، وكان قد ولاه عبد الله بن الزبير البصرة، فقال له جماعة وحوه العرب وفرسان قبائلهم: اصلح الله الامير، انظر امور هؤلاء القوم. فقال لهم: والله ما ادري في امورهم اكثر مما تدرون، انتم وجوه قابئكم، وفرسان قومكم، وهذا العدو انما يريد اخذ اموالكموسبي ذراريكم، فأشيروا علي برأيكم. قالوا: مل إلى المهلب فلعله ان يتولى حربهم، فان فعل، وقبل منا رجونا ان يدفعع الله عدونا، ويكفينا فبعث الحارث إلى المهلب فأتاه، وعنده جماعة أهل البصرة.
فقال يا ابا سعيد: قد ترى ما ارهقنا ايه من هذا العدو، وقد عجز أهل مصرك عنهم، واجتمع رأيهم عليك، وافترقوا اليك، فكن لهم في موضع ظنهم ب، ورجائهم فيك.
ثم تكلم الاحنف بن قيس التميمي فقال: يا ابا سعيد، انا والله ما اثرناك لم نر من يقوم لنا مقامك، فكن عند ظننا بك.
فقال له الحاث، واومأ إلى الاحنف: ان هذا الشيخ لم يسمك الا ايثارا للدين، فكل من في مصرك، ماد عينيه اليك راج ان يكشف الله عنهم هذه الغمة بك، وتيمن نقيبك، وميمون طائرك.
فلما سمع المهلب كلامهما، ونظر إلى اجتماع وجوه رجال العرب من القحطانية والعدنانية. قال: لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم، وايها الامير ان نفسي دون ما وصفتني أنت وهذا الشيخ، لست انما دعوتني اليه ان امكنتموني مما اشير به عليكم.
قالوا بأجمعهم: لك ما سأت.
قال لهم: علي اني اخذ جميع نصف غلاتكم، وكل بلد فتحته من يد العدو، فجبايته لي من الاموال، إلى ان يهلك الله عدوكم، وان انتخب لنفسي من جميع العرب وأخماس البصرة من اردت من الرجال.
فوجعوا ساعة.
فقال لهم الاحنف: ان كان فيكم من وجوه العرب احد يقدر على حرب هذا العدو بدون هذه الشروط فليفعل. فلم ينطق احد منهم فضرب بيده عللى يد المهلب.
ثم قال له: لك الوفاء بجميع ما شرطت على كرههه من كره، أو رضى.
فقام المهلب في بنيه وبني اخيه، فمششى على الاخماس، وانتخب من شجعان االقبائل أهل البأس والنجدة، وكان اكثر من انتخب من البائل الارذ.
ثم قال: يامعشر الازد والله ما اخترتكم بغضا مني فيكم، ولا القيكم في صدور هذا العدو، ولكني حملني انتدابكم ما سمعته من امير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو يقول: للازد اربع ليست في قبائل العرب، بذل في ايديهم، ومنع لجورهم، وشجعا لا يجبنون وحي عماده، ولا يحتاجون إلى غيرهم. بل نصر الله هذه الدين وأفنى صناديد المشركين، وبهم تشتت شمل المارقين.
فلما سمع الازد ذلك منه مع ما كان ينالهم من معروفه.
قالوا: يا ابا سعيد تقدم بنا حيث شئت، فوالله ما انهزم احد منا عنك ولا مات امامك.
ثم ان المهلب قصد قطرى بن الفجاءة، وكانوا في زهاء الف مقنعين بالحديد والدروع والبيض، ولا يبصر منهم الا الحدق، فلقيهم على الجسر وناوشهم الحرب، حتى ازالهم عن الجسر، وكانم جل اصحابه رجاله، فترجل المهلب من دابته وترجل جميع اولاده بين يديه، واخذ المهلب لواءه بيده وتقدم إلى القوم وهو يقول:
ان على كل رئيس حقا ... ان يخضب الصعدة أو يندفا
فكانت عليه وعلى اصحابه درعة، ثم منحه الله اكنافهم، فاكثروا فيهم القتل. وكان المهلب لما نزل إلى الازارقة ضرب حول سرادقه اثنى عشر سرادقا لبنيه وقد فرض على كل رجل منهم يوما يلي القتال فيه بنفسه وباصحابه، دون اخوته، فيخرج مدرك في قومه وزاخر من بين يديه أهل عمان وهو يقول: