قال الحجاج: لم؟ لا ام لك.
قال شعرا:
لأنه كاس في اطلاق اسرته ... وساق نحوك في اغلالها مضرا
وفي بقومك ورد الموت اسرته ... وكان قومك ادنى عنده خطرا
الحجاج: وما أنت وذاك لا ام لك زووقعت في نفسه نوحقد الحجاج على يزيد بن المهلب، وازداد غيظا وحنقا. وقال: والله ما اتحدى ابن المهلب الا جزار المصر، وجعل لا يزال حانقا، حاسدا لولد المهلب، الا يقول ان يزيدا لا يعطيك الطاعة ابدا.
فلما ان استأذن بن عبد الملك نوأوهمه في يزيد ما اوهمه، واذن له الوليد في أمره نوقلد الحجاج الأمر في ذلك، جعل الحجاج يدبر الأمر في انقطاع الحيلة على يزيد بن المهلب، واخوته. فعند ذلك احتال حيلة يستدل بها على ما في نفسه، وكتب إلى يزيد في اطلاق من اطلق من الأساري، ويلومه في فوت ابن العباس الهاشمي اياه نواغلظ في كتابه بعض الاغلاظ.
فكتب اليه: انا لم نأل جهدا عن رضا امير المؤمنين من لا والنصيحة للامير، ولسنا نملك احاديث الكذبة الحسدة، وان بباب امير المؤمنين من لا احسب الامير ليسره، ان يصدق عليه. فلما قرأ الحجاج كتاب يزيد اليه، أغاضه فظن ان الذي بلغه عنه، كالذي بلغه. فأخذ في ايقاع الحيلة والمكيدة ليزيد.
فكتب اليه، وبعث اليه بألطاف العراق، وهداياها، وبعث بذلك مع الخيلر بن سيرة بن ذؤيب المجاشعي. وقال له: اعلم لي خبر يزيد وحاله ومحبة أهل خراسان له نوكان في جملة ما كتب اليه: ان الناس قد أكثروا عليك، فابعث اليّ اوثق من قبلك في نفسك أسأله عما اشكل عليّ من امرك.
فلما قدم الخيار بن سيرة، على يزيد بكتب الحجاج، وهداياه اليه، اكرمه يزيد، واقام الخيار عنده شهرا، ومكث يزيد يشاور في ذلك نصحاءه، ويطلبه فيجده ناصحا غير اريب ناويجده أريبا غير مامون. حتى وقع اختياره على الخيار بن سيرة نوكان الخيار قبل ذلك من فرسان المهلب وخواصه، ولم يزل مع المهلب إلى أن حضرته الوفاة، فأوصى بنيه به، فكان يزيد له على ما أوصى المهلب به، فلما ان قدم عليه بكتب الحجاج وهداياه اليه، اختصه واكرمه وسكنت نفسه اليه، لما كان يولونه من الكرامة، فعند ذلك اعاده إلى الحجاج، وكتب عنده جواب كتابه، واوصاه وصية الرجل لأهل بيته، وأمر له بجائزة، وكتب معه أيضاً إلى الحجاج من حوائج الجند وغيرهم.
فلما قدم الحيار على الحجاج، دفع اليه بكتب يزيد، فقرأها، ثم قال له: اني أسالك عن بعض ما أريد من خراسان، فكيف علمك بها؟ الخيار: يسألني الأمير عما بدا له، فإني خابر وناصح، عالم بأمر القوم، قديم النصيحة للأمير.
الحجاج: فأخبرني عم يزيد بن المهلب وأخويه.
الخيار: خبر سر، أم خبر علانية.
فلما قالها عرف الحجاج أن عنده ما يحب عليه.
الحجاج: بل خبر سر.
الخيار: أدن مني.
فدنا منه، حتى لصق خده بخده. وقال: أصلح الله الأمير، أخبر خبر رجل إذا أخبرك بما في نفسه ونصحك وصدقك، رددته إلى صاحبه، فهو واليه وأميره، يحكم فيه بما شاء، أم خبر رجل إذا أخبرك بالحق وجلا لك عن العمى قربته واستنصحته واحتسبته.
الحجاج: لا، بل خبر رجل إذا نصحني وصدقني قربته واستنصحته واحتسبته.
الخيار: جئتك من عند قوم قد أسرجوا ولم يلجموا، ورأيت رجلا جبانا، ان أقررته ولم تهجه فالجري أن يفي لك، وان عزلته فلا أحسبه، والله يعطيك الطاعة أبدا.
فصدقه الحجاج واحتسبه وأثبته في أصحابه، ولم يزل فيه حسن الرأي والسيرة، حتى استعمله على عمان عداوة لبني المهلب، وأمره باستذلال أهل عمان، فقبح الخيار السيرة اليمانية من أهل عمان، يقصد بذلك أذية يزيد بن المهلب، ويتقرب إلى الحجاج بذلك، ولم يزل حتى تمكن منه يزيد بن المهلب، بعد موت الحجاج، فقتل بأمره.
ثم ان الحجاج لما أخبره الخيار بن سيرة بما أخبره من أمر يزيد واخوته، وصدقه الحجاج واستنصحه، وكان الوليد في ذلك الوقت قد رد أمر خراسان وولايتها إلى الحجاج، فكتب نسخة عهده إلى يزيد، واستقدمه وأمره أن يستخلف على موضعه المفضل، فقال حصين بن المنذر ليزيد بن المهلب، وقد كان أشار عليه ألا يشخص، وأن لا يعبر نهر بلخ، فلم يقبل منه لكثرة وصايا المهلب لبنيه بإلزام الطاعة، فقال له الحصين بن المنذر:
أمرتك أمرا حازما فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الامارة نادما