للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويقال: انه وقف بعض ولده، وولد بعض اخوته، على حبيب، وهو يجود بنفسه، فقال له: أي عم، اصبر عليك، حتى إذا مت قطعت رأسك ودفنته لئلا يعرف. فقال له وهو بآخر رمق: لا تفعل، فإنني أخشى إذا لم يجدوني في المعركة قتيلا يقولون هرب. فأخبر يزيد بذلك، فدعا يزيد حينئذ نافجة فيها مسك فشربه. فقال: الساعة أقتل، فأخب أن يوجد مني رائحة طيبة. وتقدم إلى القتال، وكانت به علة، قد تقدمت، فأضعفته وأنهكته، وأنشأ يقول متمثلا:

فإن نغلب فغلابون قدما ... وان تغلب فغير فعلبنيا

وما ان طبنا جبن ولكن ... منايانا ودولة أخرتنا

ثم قال: يا أهل العراق، وأصحاب السبق والسباق، ومكارم الأخلاق، ان أهل الشام في أجوافهم لقمة دسمة، قد رأبت لنا الأشداق، وقاموا لها على ساق، وهم غير تاركيها لكم بالمراء والجدل، فألبستموها جلود النمر، والا لم يطيقوكم، ثم تقدم، فلم يزل يقاتل يمنة ويسرة حتى قتل، وكان الذي تولى قتله بيده، الفحل بن العباس الكلبي. فأتى عثمان، مولى بني حصيلة برأسه إلى مسلمة. فقال له: أنت قتلته. ولم يعرف مسلمة الرأس، فقيل له: مر به، فليغسل ويعمم، فإنا ما رأيناه قط بلا عمامة. فأمر به فغسل وعمم فعرف. وهذه مناقب يزيد، لم ير رأسا عمم، غير رأس يزيد. ثم قال لهم مسلمة: اطلبوا جثته، فإن برجله علامة. قال أبو عبيدة: كانت ابهام رجله والتي تليها ملتصقتين.

وكان يزيد بن المهلب نفر من بني تميم، وجماعة من المضرية، فانهزموا عنه، فلما قتل يزيد، انهزم الناس. فقيل لمحمد بن المهلب: انج بنفسك فقد قتل اخوتك، وانهزم الناس عنك. فقال: والله لا يسألني أحد كيف كانت وقعتكم وخلاصك أبدا. فقاتل حتى قتل. وبقي المفضل يقاتل ولا علم له بموت اخوته. فقاتل قتالا شديدا وفقئت عينه.

وقد أجمع رأي من بقي من آل المهلب أن يمضوا على حاميتهم، إلى عقر بابل، فأقبل عبد الملك إلى المفضل، وكره أن يخبره بموت يزيد يستقبل. فقال له: على ما تقتل نفسك يا أبا غسان، وقد انحاز الأمير إلى واسط. فقال له المفضل: ما تقول؟ قال: ما قلت لك الا حقا، وحلف له بالطلاق.

فانحاز عبد الملك، والمفضل، ومن بقي من آل المهلب، يريدون واسطا، وقد أفرج لهم أهل الشام، لأن مسلمة وأهل الشام اتفقوا فيما بينهم أن بني المهلب لا يبرحون المعركة، أو نَفْي جميع أهل الشام. وقالوا: أن يفسحوا فرجوا لهم. وسألهم مسلمة ذلك. قال لهم: ان رأيتم آل المهلب، يطلبون منكم الخلاص، فلا تضيقوا عليهم، فإنهم لا يموتون حتى يفنوا رجالكم.

فلما دنو من واسط، علم المفضل بقتل يزيد، فندم على الحياة وغضب على عبد الملك، وأقبل عليه يشتمه. وقال له: ويلك فضحتني إلى آخر الأبد، ما عذري عند الناس، إذا نظروا إلى شيخ أعور منهزم موتور، لاجرم، والله لا أكلمك بكلمة ما عشت. وما كلمه حتى مات.

وقال المفضل، حين علم بقتل يزيد:

ولا خير في القتل الصناديد بالقنا ... ولا في ركوب الخيل بعد يزيد

ومضى أهل المهلب يريدون قيدابيل، والتعن، فلما سمع بمجيئهم أغلق الباب في وجوههم، وبعث مسلمة بن عبد الملك، عبد الرحمن بن سليم الكلبي، إلى البصرة، في عشرة الآف، وأمره ان قول أن يستأصل، ونسي وأمره أن يهدم دور بني المهلب، وكان الذي ولي هدمها عمر بن يزيد بن عمير الأسدي.

وخرجت العساكر إلى آل المهلب، وتفرق الناس عنهم، ولم يبق الا ولد المهلب، وبعض مواليهم، وكثرت عليهم العساكر، وكان مسلمة أمرهم أن يقتلوا الا كل من قبل. فقبل منهم: المفضل، ومدرك، وزياد، وعبد الملك، وعمر بن المهلب، ومن بني بنيه حرث بن محمد، وعباد بن حبيب. وفي ذلك يقول المفضل:

وما الجود الا أن نجود بأنفس ... على كل ماضي الشفرتين قضيب

وما خير عيش بعد قتل محمد ... وبعد يزيد والحرون حبيب

ومن هز القنا خشية الردى ... فليس لمجد حادث مسكوب

وما هي الا رقدة تورث الشقا ... لعقبك ما جنت رواة ريبوا

<<  <   >  >>