فألحقت أولاه بأخراه موفيا ... على قنّة أقعى مرارا وأمثل
ترود الأراوي الضخم حولي كأنها ... عذارى عليهن الملاء المذيل
ويركدن بالآصال حولي كأنني ... من العصم أوفى ينتحى الكيح أعقل
ثم انه غزا قومه فأكثر الغزو فيهم، وقتل مرارا، وكان تأبط شرا، وعمرو بن براق معه. فغزا الشنفري هذيل فقتل منهم وأخذ بثأر خاله. قال الشنفري في قتل خاله، وقتله من قتل هذيل عدت على حال الشنفري، هو وتأبط شرا. قال الشنفري في قتل خاله:
صليت مني هذيل بحرق ... ولا يمل الشر حتى يمل
يورد الآلة حتى إذا ما ... نهلت كأن لها منه عل
أسقيتها يا سواد بن عمرو ... ان خالا بعد خالي نحل
حلت الخمر وكانت حراما ... وبلاي ما ألمت تحل
فصبحنا كأس حتفت هذيلا ... عقبها خزي وعار وذل
وكذا البصرى فيهم مليا ... ينتهي في هامهم ويصل
مطلع الشمس فلما استحرت ... اقشعوا من فورهم فاستقلوا
تضحك الضبع لقتل هذيل ... ويرى الذنب لها يستهل
ثم ان الشنفري اكثر الغزو في قومه، فنذر به أسيد بن جابر الغامدي، فأقبل هو واثنان جروران، حتى انتهوا إلى قليب ماء يرده الإبل الشنفري من وروده إياه، فأثبتوا له في مكمن على القليب من صدواله، فأقبل الشنفري في الليل يريد الورود، فلما دخل الضيق وقرب من الريبة، وتوجس وهاب من الاقدام. وقال: اني أراكم أيها الريبة، وما بي من ظمأ، ثم ولى راجعا من حيث جاء. فقال الغلامان لأبيهما: يا أبانا رآنا الخبيث فرجع. فقال أبوهما: لم يركما، ولكنه حديس وتظنن، فاثبتا واسكتا. فقام يومه وليلته ظمآنا. ثم مر له ثائرا له ثانية وهو متلثم، وفي يده بعض نبله، فلما نظرت إلى النبل عرفته لان أفواقها كانت من قرون وعظام، وكانت معروفة، فاستدعى القرى فأطعمته اقطعا وتمرا، ليزداد عطشا، واستقاها فسقته رائبا، فزاده عطشا. فقالت له: الماء منك على بعد، وأوحت له إلى جبل بعيد المطمع ليتوهمه ويزيده عطشا. فلما ولى أتت قومها فوصفت لهم صفة نبله فعرفوه. وقالوا: هذه صفة الشنفري.
واشتد بالشنفرى العطش، فأرسل القوم إلى صاحبهم أسيد بن جابر الغامدي، لا تبرح من مكانك فإن الشنفري يجول عنك، ولا بد ان يرد.
واشتد به العطش، فأقبل بالليل يريد الماء. وقد خلع احدى نعليه شدها على قلبه مخافة من سهم يأتيه، وجعل يضرب الأرض بنعله، ويمشي بالأخرى حافيا، فسمع الغلامان حسّه، فقالا: يا أبانا الضبع، ولرجل تقبض إذا خطت. فقال أبوهما: كلا هو الخبيث يلبس علينا.
فلما قرب الشنفري توجس فوقف يحد النظر يمينا وشمالا ويستنشق الريح ويقول:
أونس ريح الموت في المكاسر ... لا بدّ يوما من لقاء المقادر
هذا أونى أسد بن جابر ... بنبعه واسهم طوائرِ
ومرهف ماضي الشباة باتر ... وابناه في الريبة والتحابر
أخطأت ما أملت يا ابن الغادر ... لست بوارد ولا بصابر
ثم نكص راجعا يضحك ويدهده الصخور، حتى إذا كان بأسفل الوادي، رفع عقيرته، يعني لوس بن برقيه، وهو يقول شعرا:
أنا السمع الأزل فلا أبالي ... ولو صعبت شناخيب العقاب
فلا ظمأ يؤخرني وحرّ ... ولا حمص يقصر من طلابي
فقال الغلامان: يا أبانا، قد - والله - رآنا فأفلتنا ولن يعود ألينا، فامض بنا. فقال الشيخ: ما رآكما، وانما هذا منه حدس وخداع، اثبتا موضعكما فإنه سيعود. فثبتا، وعاد يعدو مبادرا، وهو يقول:
يا صاحبي هل الحذار مسلمي ... أم هل لحتف منية من مصرف
اني لأعلم ان حتفي في الذي ... أخشى لدى الشرب الظليل المشرف