فلما أصبحوا في اليوم الثالث، زحف الفريقان بعضهم إلى بعض، فوقفوا مواقفهم تحت راياتهم. وأقبل أربعة نفر من المرازبة والأساورة، ممن كان يعدّ الرجل منهم بألف رجل، حتى دنوا من مالك. فقالوا: هلمّ الينا لننصفك من أنفسنا، ويبادرك منا رجل رجل. فتقدم اليهم مالك، وخرج اليه واحد منهم، وطارد مالكا ساعة، فعطف عليه مالك، ومعه نجدة الملوك وحمية العرب، فطعن الفارس طعنة حطم في صلبه، فوقع الفارس إلى الأرض عن فرسه. ثم علاه مالك بالسيف فضربه، فقتله. ثم حمل الفارس الثاني على مالك على مفرق رأسه، ففلق السيف البيضة، وانتهى إلى رأس الفارس، حتى خالط دماغه، فخرّ ميتا. ثم حمل عليه الفارس الثالث، وعليه الدرع والبيضة، فضربه مالك على عاتقه، فأبانه مع الدرع نصفين، حتى انتهى سيف مالك إلى زح دابة الفارس، فرمى به قطعتين. فلما نظر الفارس الرابع ما صنع مالك بن فهم من أصحابه الثلاثة، كاعت نفسه، وأحجم عن لقاء مالك، فولى راجعا نحو أصحابه، حتى دخل فيهم.
ثم انصرف مالك إلى موقفه فيه، وقد تفاءل بومه ذلم بالظفر الثلاثة القواد من المرازبة. وفرحت بذلك الأزد فرحا شديدا، ونشطوا للحرب.
فلما رأى المرزبان، قائد جيش الفرس ذلك، وما صنع مالك بن فهم في قواده الثلاثة، دخلته الحمية والغضب، وخرج من بين أصحابه. وقال: لا خير في الحياة بعدهم. ثم نادى مالكا. وقال: أيها العربي، اخرج اليان كنت تحاول ملكا فأينا ظفر بصاحبه كان له ما يحاول، ولا نعرض أصحابنا للهلاك.
فخرج اليه مالك برباطة جأش، وشدة قلب، فتجاولا بين الصفين مليا، وقد قبض الجميع أعنة خيولهم، لإوقفوها ينظرون إلى ما يكون منهما. ثم أن حمل على مالك بالسيف حملة الأسد الباسل، فراغ منه مالك روغان الثعلب، وعطف عليه بالسيف، فضربه على مفرق رأسه، وعليه البيضة والدرع، ففلق البيضة، وأبان رأسه، وخرّ ميتا.
وحملت الأزد على الفرس وزحف الفرس اليهم فاقتتلوا قتالا شديدا، من ظهر النهار إلى العصر، وعض اصحاب المرزبان السيف، وصدقتهم الأزد الضرب والطعن، فولوا منهزمين النهار، حتى انتهوا إلى معسكرهم، وقد قتل منهم خلق كثير وكثر الجراح في عامتهم.
فعند ذلك. ارسلوا إلى مالك بن فهم يطلبون منه أن يمن عليهم بأرواحهم ويجيبهم إلى الهدنة والصلح، وان يكف عنهم الحرب ويؤجلهم إلى سنة ليستظهروا على حمل أهلهم من عمان. وأن يخرجوا منها بغير حرب وقتال. واعطوه على ذلك عهدا وجزية على الموادعة، فأجابهم مالك بن فهم إلى ما طلبوا. وسألوا منه.
وهادنهم واعطاهم على ذلك عهدا وميثاقا، أنه لا يعارضهم بشئ إلا أن يبدأوه بحرب وقتال. فكف عنهم الحرب، وأقرهم في عمان، على ما سألوه فعادوا إلى صحار وما حولها من الشطوط. وكانت الفرس في السواحل والشطوط وكانت الأزد ملوكا في البادية وأطراف الجبال.
فانحاز عنهم مالك إلى جانب قلهات. فيقال ان الفرس في مهادنتهم تلك طمسوا في عمان أنهارا كثيرة وأغموها. ثم انهم من فورهم ذلك في مهادنتهم تلك كتبوا إلى الملك دارا بن ديل، فاعلموا بقدوم مالك بن فهم الازدي من شأنه، ويخبرونه بما هم فيه من الضعف والعجز، ويستأذنونه في التحمل اليه بأهلهم وذراريهم إلى فارس.
فلما بلغ ذلك الملك دارا، غضب غضبا شديدا، ودخله القلق، واخذته الحمية، لمن قتل من أصحابه وقواده. فعند ذلك دعا بقائد من عظماء مرازبته واساورته، وعقد له على ثلاثة الآف من اجلاء أصحابه وشجعان مرازبته وقواده وقدمه فيهم، وبعث فيهم لأصحابه الذين بعمان، فتحملوا إلى البحرين، ثم تخلصوا إلى عمان.
وكل ذلك، مالك بن فهم لا يعلم بشي من أمرهم. ثم ان الفرس الذين كانوا بعمان مكثوا في عمان أيام مهادنتهم تلك إلى أن تركهم الروع واستراحوا وأتاهم المدد من عند الملك، من عند الملك، من ارض فارس. فعند ذلك جعلوا يستعدون ويتأهبون لحرب مالك بن فهم، ومن معه من الأزد.