ولم يزالوا على ذلك، إلى ان انقضى اجل الهدنة وانتبه لهم مالك بن فهم وجعل يستطلع من أخبارهم. حتى بلغه وصول المدد عندهم. وقد انقضى اجل الهدنة، فارسل اليهم: اني قد وفيت بما كان بيني وبينكم من عهد وأكيد صلح، وقد انقضى رالأجل الذي كان بيني وبينكم، ونتم بعد حلول بعمان، وبلغني أن أتاكم من عند الملك مدد عظيم، وأنكم تستعدون لحربي وقتالي، فأما ان تخرجوا من عمان طوعا، والا زحفت اليكم بخيلي ورجلي في كافة عساكري وجيوشي، ووطأت ساحتكم وقتلت مقاتلتكم، وسبيت الذراري، وغنمت الأموال، وأقمت على كرهكم.
فلما وصلت رسل مالك بن فهم إلى الفرس بذلك، هالهم أمره وعظموه رسالته اليهم مع قلة أصحابه وعسكره لديهم، عند كثرة ما اجتمع اليهم من العساكر والجنود، وما هم فيه من القوة والمنعة والعدة والعدد. فزادهم غيظا وحنقا، وردوا عليه أقبح رد. فعند ذلك زحف مالك بن فهم إليهم في خيله ورجله وجميع عساكره. وسار حتى وطئ أرض الساحل، وبلغ ذلك الفرس واستعدت للقائه، وخرجت لحربه، ومعهم الفيل، واقبلوا حتى قربوا معسكر مالك بن فهم.
وقد عبأ مالك بن فهم أصحابه كتيبة كتيبة، وراية راية، وجعل على ميمنته ابنه هناة بن مالك وعلى الميسرة ابنه فراهيد بن مالك، وهو في القلب على بقية من ولده، وأهل النجدة والشدة من أصحابه وخواصه من فرسان الأزد وغيرهم.
ثم التقوا، ونادى بعضهم بعضا، وحملت فيهم فرسان الأزد، ميمنة وميسرة وقلبا، وصدقتهم الأزد الضرب والطعن. فاقتتلوا قتالا شديدا، ودارت الحرب بينهم كأمثل ما يكون مليا من النهار، ثم انكشف عنهم العجم. وكان معهم فيل فتركوا الفيل، فدنا من هناة بن مالك، فضرب خرطومه بالسيف، فقطعه، فولى له صياح، وحمل عليه معن بن مالك، فعرقبه بالسيف، فسقط. ثن نادى مالك بن فهم: يا آل الأزد، يا آل الأزد. فثابوا واجتمعوا اليه من كل فج. فحمل بهم على العجم حملة فكشفهم. ثم نادى يا معشر الازد، اقصدوا إلى لوائهم، فاكتنفوه نصفين قبل ان يدهمكم العجم فتكنفكم من كل وجهة. فحمل مالك وحمل معه اولاده في كافة فرسان الزد وأبطالهم حملة واحدة، فاكتنفوا لواء العجم.
واختلط الضرب، والتحم القتال، وارتفع الغبار، وثار العجاج. حتى حجب الشمس ولم يكن يسمع الا صليل الحديد، ووقع السيوف. فتراموا بالسهام، حتى تفصدت. وتطاعنوا بالرماح حتى تكسرت، وتضاربوا بالسيوف وأعمدة الحديد، في الحرب لم يسمع السامعون بمثلها. حتى اختضبت الفرسان بالدماء، وكثرت بينهم القتلى والجرحى فكان ذلك كأسرع ما يكون.
ثم لم يكن للفرس لشدة الحرب بثبات، فولوا منهزمين على وجوههم، واتبعهم هناة بن مالك في اخوته، وفرسان الازد.، فجعلوا يقتلون ويأسرون من لحقوا إلى ان قتلوا منهم خلقا كثيرا. ولحق فراهيد بن مالك سندفار بن مرزبان، وكان من اعظم قوادهم، فطعنه فارداه عن فرسه، ثم علاه بالسيف فقتله.
وسارت فرسان الازد، ومن حف من ابطالهم على آثار العجم، لا يلون على سلب ولا غيره، يومهم ذلك كله، يقتلون ويأسرون حتى حال بينهم الليل، فما افلت منهم الا من ستره الليل، فتحمل من بقي منهم من تحت ليله، وركبوا في السفن وعبروا إلى ارض فارس، واجلوا من عمان. واستولى مالك بن فهم الأزدي في كافة أصحابه وقومه من الأزد على سوادهم، فاستباحهم، وغنم أموالهم، وأسر منهم خلقا كثيرا. فمكثوا في السجون زمانا، ثم اطلقهم، ومنَّ عليهم بأرواحهم وكساهم ووصلهم وزودهم، وحملهم في السفن إلى ارض فارس.
واستولى مالك بن فهم، يومئذ على عمان. فملكها وما يليها من اطراف عمان، وساسها، وسار فيها سيرة جميلة.
ولمالك بن فهم وولده في امر ورودهم إلى عمان، وحربهم للفرس اشعار وشواهد كثيرة، تركتها وطويت اختصارا، الا اني اذكر من ذلك ما حضر ذكره. فمن ذلك يقول هناة بن مالك بن فهم الازدي، والعتيك تزعم أنها لبكير بن وائل الطاحي:
يذكرنا في الود أيام شعتم ... ليالي أسباب الهوى لم تجذم
وما ذكره عصر الصبا وقد اكتست ... مفارقه لوني خليس واسحم
واني عداني ان ازورك فاعلمي ... شباب حروب كالحريق المضرم
الا هل اتى عنا حجازي قومنا ... على النأي أبناء الخميس العرمرم