وهو عدي بن زيد بن أيوب بن جمان محرون بن عصية بن امرئ القيس بن زيد بن مناة بت تميم، وكان لعدي بن زيد رأي وجمال عقل ولسان، وكان شاعرا اديبا متكلما باللسانين الفارسية والعربية، يكتب بهما جميعا، وكان من أهل بيت فارقوا قومهم نزلوا الحيرة بأسباب التجارة. فجاوروا من كان فيها من ملوك لخم من أولاد عمرو بن معدى بن نضر واتجروا بالحيرة، فأفادوا بها أموالا. وكان سبب كينونة عدي بن زيد من ملوك العجم بان قابوس بن النعمان بن المنذر الأول المعروف بابن ماء السماء، ملك الحيرة، وكان في عصرهم من دين كسرى أنوشروان، وأن قابوس بن المنذر أراد ان يوفد وفدا إلى هرمزد ملك العجم في بعض حوائجه، فاختار من أهل الحيرة زيدا أبا عدي بن زيد وابن عمه، وكان يقال له عمرو بن أيوب، فسارا حتى دخلا على هرمزد بالمدائن، فلما رآهما هرمزد اعجبه جمالها وحسن كلامها ز وقال: ما ظننت ان يكون في العرب مثل هذين الرجلين، فحبس زيدا عنده وجعله كاتبا بالعربية وترجمانه بالفارسية، وانصرف عمرو بن أيوب إلى قابوس بن المنذر، فلما قتل هرمزد بن كسرى أنوشروان، وافضى الأمر إلى ابنه بن هرمزد، وهو كسرى الأخير، مات زيد في حدثان ملك كسرى فجعل كسرى إبنه عدي بن زيد مكان ابيه، فكان عدي كاتب كسرى بالعربية وترجمان فيما بينه وبين العرب.
وكان بين أهل بيت عدي وبين أهل الحيرة بيت يقال له بنو نفيلة، وهم أهل بيت بني عبد المسيح بن حيان بن عمرو بن نفيلة. وكان عبد المسيح من المعمَّرين عاش ثلاثمائة وخمسين سنة، وكان حكيما من الحكماء. وكان بين بيت أهل عدي وبين هؤلاء عداوة متقدمة وشحناء؛ فوجد النعمان على بني نفيلة فأخذ ضياعهم ومعايشهم وظنوا ان عدي بن زيد بين أهل بيته.
وكان في بني نفيلة ذو دهاء ومكر يسمى عدي بن أوس بن مزينا، فقال للنعمان ذات يوم وقد خلا معه: أيها الملك إن عدي بن زيد بن عمّ، انه هو الذي - وكذلك هذا الملك؛ وطد له امر الصلة بينك وبين كسرى، ولما كان من مشورته على كسرى بالميل اليكم دون اخوتك. فأضغن بذلك قلب النعمان على عدي، وكان عدي يقيم بالحيرة في اهله ثلاثة اشهر وسائر ذلك بباب كسرى، ثم ان عدي بن أوس كتب كتابا إلى كسرى على لسان عدي ينتقض النعمان، والوقيعة فيه بينه وبين كسرى، ثم دس الكتاب إلى من أخذه وأتى به النعمان غضب على عدي بن زيد وامهله ذلك، ولم يظهر له شيئا مما في قلبه فأقام عدي في منزله بالحيرة في ذلك العام ثلاثة اشهر ثم انصرف إلى المدائن، فأقام سائر ذلك العام بباب كسرى، فلما جاء الحول إلى النعمان بهذين البيتين:
أبا منذر كافأت بالود سخطه ... فماذا جزاء المحرم المتعيض
فإن جزاء المحرم مثل كرامه ... ولست لنصح فيك بالمتعرض
فلم يحفل النعمان بهذين البيتين وتمادى في حبسه؛ وفي ذلك يقول عدي ابن زيد هذه القصيدة التي حضرنا منها هذه الأبيات:
ان للدهر صولة فاحذرها ... لا تنامن قد امنت الدهورا
قد يبيت الفتى صحيحا فيردى ... ولقد كان آمنا سرورا
إنما الدهر لين ونطوح ... يترك العظم واهيا مسكورا
ولقد كان ذا جنود وبأس ... تحذر الأسد صولة ان تزيرا
وبني الأصفر الكرام ملوك ... الروم لم يبق منهم مذكورا
ثم ان عدي بن زيد كتب إلى أخ له وكان له بكسرى خاصة ومنزلة يسمى ايبا، وكان عدي إذا قدم الجيرة جعله بباب كسرى فاذا انصرف إلى المدائن رده إلى منزله بالحيرة فكتب اليه بهذه الأبيات:
لدى ملك موثقا بالحديد ... أما بحق واما ظلم
فلا تلتقين كثيرا الرقاد ... بل احزم برأيك ثم اعتزم