فقال. ارى من الرأي ان تجرزوا اهليكم واثقالكم وذراريكم في رأس جبلة وتكونوا انتم به واعقلوا الابل واجعلوها امامكم وعطوشها حتى يحدها العطش، واكمنوا لهم في اعلى الشعب، حتى إذا صعد عدوكم في الشعب فكونوا في المضيق منه، فحلوا عقال الابل وسرحوها في وجوههم وقعقعوها في اثرها بالشنان، فإنه اروع لها، واركبوا كساها فإنها تطلب الورد، فلا تمر بشيء الا حطمته، وقاتلوهم من فوقهم، وان اقاموا في اصل الشعب تشتت امرهم وتفرقوا، ففعلوا ما أمرهم به قيس.
فدخلوا شعب جبلة وهو على طريق مكة، وصنعوا كما أمرهم به قيس، وقيس وعبس كلهم يومئذ مع بني عامر ودعت بنو عامر، بجيلة، وكان بينهم حلف فأجبتهم بجيلة من كل بطن، في خلق كثير، حتى انتهوا اليهم فعمدت بنو عامر إلى بطن بجيلة فجعلت مع كل بطن من بني عامر بطنا من بجيلة.
فلما احرزوا حرمهم في الجبلة قام الرجال ينتظرون وابطأ عليهم الخبر فبينما هم كذلك، إذ اقبل راكب يؤم نحوهم، فجعل يسير حتى نزل قريبا من محلتهم، فلما رأوه، قالوا: هذا ضيف قد نزل بكم؛ فبعثوا اليه بعس من لبن ناقته. ثم بعثوا اليه بعس آخر فشرب منه، ثم سقى منه ناقته. قال: ثم عمد إلى ضربين، فجعل في احدهما ترابا، وجعل في الاخر شوكا، والقاهما في مجلس الاخوص بن جعفر، وولى راجعا ولم يتكلم بشئ حتى اتى قومه، وانما غاب عنهم ساعة. فأنطلق القوم من بني عامر بالضربين حتى اتوهما الاحوص بن جعفر: ذلك كرب بن صفوان وبيننا وبينه في المدة ما لا يبلغ كنهها؛ وانما اتاكم عمدا ولم يستطع ان يخبركم بشئ لما قد اخذ عليه من العهود والمواثيق. فهلما هاتان الضربان قالوا: لا قال؛ فأنه يخبركم، قد اتتكم شوكة شديدة، واتاكم من القوم عدد التراب. ثم التفت الاحوص إلى قيس بن زهير.
فقال: ما ترى يا قيس، فيما رأيت؟ فقال قيس: كذلك الرأي، وقد اصبت وجه الصواب.
قال: وذلك ان القوم لما توجهوا نحو بني عامر، وكانوا من كرب بن صفوان بن سبحية السعدي، من بني سعد بن زيد مناة بن تميم، على خوف ان ينذرهم، وكانوا قد اخذوه من قبل فأخذوا عليه العهود والمواثيق، الا يتكلم بشئ من امرهم حتى يفرغ من بعضهم عن بعض. فلما سار القوم ساروا قريبا من بني عامر، خرج كرب بن صفوان تحت الليل حتى اتى محلة الاحوص بن جعفر، وبني عامر. وكان من امره ما كان حتى القى اليهم الضربين، وولى راجعا إلى بلاد قومه، قال: ثم اقبلت بنو فزارة وذبيان وبنو تميم وبنو الضأن وكندة وطيء عليهم ابنا الجون الكنديان.
وكان في الجبل حصد بن حذيفة بن بدر الفزاري، وقومه من فزارة ولقيط وحاجب ابنا زرارة سيد بني تميم، فلما اشرفت قالت بنو بارق وغير: والله لا نصعد الجبل ابدا وكان سبب حضور بني بارق يوم جبلة ان بني عامر بن عبد الله بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الازد، اجلت بارق عن السراة، وبارق هي سعد وعمرو ابنا عدي بن حارثة بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء، فلما اجلت بارق عن السراة دخلت ارض قيس، فحالفت بني نمير، واقامت معهم فشهدت بارق شعب جبلة، وكان لهم في ذلك اليوم احسن البلاء.
فلما صعدت بنو عامر وبنو عبس الشعب على ما وصفنا قالت بارق: والله ما نصعد؛ وقالت نمير، مثل ذلك. فكانوا من وراء الشعب، فلما انتهت جنود ذبيان وتميم إلى الشعب تقدموا في الخيل. وكان بنو عامر قد علقوا الابل ان تنزع إلى السهل، فتركوهم، واستعد كل انسان منهم احجارا، وتوشحوا السيوف، وامهلوهم يصعدون، حتى إذا كانوا بين ثنيتي الجبل حلوا سبل الابل من عقلها واحدروها في وجوههم، وقعقعوا في اثرها بالشتان، ورموها بالحجارة والنبل، واتبعوها كساها، وانحطت الابل تريد السهل فغشيت القوم. فلم ترم بشئ الا حطمته، وبنو عامر وبنو عبس ومن معهم في اكساء الابل، وقد اصتلتوا سيوفهم فجعلوا يغيلون القوم كيف شاءوا والابل تحطمهم حتى انحطوا منهزمين إلى قرار الجبل وبنو عامر، ومن معهم في الجبل في آثارهم، يقتلونهم، حتى إذا ساروا إلى قرار الارض خرجت عليهم بارق وبنو نمير على الجبل فوضعوا فيهم السلاح.