فإذا وصل القاتل مأمنه عدّ ذلك المجلى، والدغيرات من شمر المجلى الوحيد، ثم صارت عبده كلها مجلى، ولا يكفي أن يركن وحده، وإنما أقربه الى ثلاثة أظهر مطالبون بالدم ويضطرون أن يلجأوا الى الدغيرات، وأما الظهر الرابع والخامس فإنهما بوسعهما أن يخلصا أنفسهما بما يقدمونه فالخامس يعطي ناقة والرابع أربعاً، والأكثر على اعتبار ان الخامس يقدم ويسلم من المطالبة.
وولي المقتول وأقاربه الأدنون لا يتركون المطالبة، فإذا ظفروا بالقاتل قتلوه وحينئذ يحق للدغيرات أو لعبدة مطاردته وقتله من يوم قتل أو ليلته الى وقت الظهر، وفي هذه الحالة لو تمكنت منه وقبضت عليه قتلته وصار دمه هدراً. ولكنها ليس لها حق تعقيب أثره لأكثر من هذه المدة، ولا يحق لها المطالبة بالحشم عن انتهاك حرمة مجلاها، كما أن أقارب المجني عليه وأوليائه لو عقروا الابل، أو الخيل، أو الدواب الأخرى دون أن تتمكن القبيلة المجلى فيها من قتله أو الظفر به سقط حقها، ولا يتوجه الفصل عليه، ويهدر الدم من المطالبة به ... وقبل أن يتمكن المرء من الدخالة، أو الوصول الى المجلى يحق لأهل القاتل وأقاربه قتله، أو عقر دوابه وإهانة أقاربه بما لا يتسر ... وهذه تسمى (فورة الدم) ولا يختلف فيها البدوي عن غيره ...
ويلاحظ هنا ان المرء قد يقتل جاره، أو قريبه ويتدخل القوم في الصلح لقطع دابر الفتنة وحرب البسوس مشهورة ويتشائم القوم منها ومن حدوث وقائع أمثالها ... فلا يكفي الصلح لإزالة الأحقاد وتحريك الضغائن لأدنى سبب، وتجارب عديدة برهنت على ان الغضاضة لا تنطفي ولا يزول أثرها الى مدة ...
ومن ثم يختارون (الجلاء) على القاتل جزاء ما ارتكبه ليبعد عن النظر حتى تنسى الواقعة. وهذا تختلف مدته بالنظر لفظاعة الجريمة، او لوجود القريبة لمن ارتكبت ضده، ووجود من هم عصبة يخشى أن يبطشوا به وهكذا ... وكل هذا يلجأ اليه تسكيناً لثائرة الغضب وتأميناً لنسيان الجريمة وتقليل شأنها بتقادم عهدها ...
[١٩ - التحالف - الوجه]
قد يحتاج بعض القبائل ان يركن الى أخرى ويعتز بها، وتكون هي أيضاً قوة وذلك لما يرون من غارات خارجية، أو تهديد، أو مجرد حذر ... ومن ثم يتحالفون على أمر. وهذا معتبر دائماً إلا أن ينقضه أحد الطرفين ... وقد يكون الحلف للهجوم على عدو ومفاجأته بقوة على حين غرة ...
أو تطلب بعض القبائل الوجه للاجتياز، أو للمرعى، أو ما مثل ... وهذا يجري من القبائل الضعيفة تجاه القوية.. فتنال حقاً بهذه الموافقة ...
وهناك أمر آخر وهو أن يكون البيت المنفرد قد جنى جناية، أو ناله ما يكره من أقاربه فرحل عنهم مغاضباً، ومال الى قبيلة قريبة اليه او بعيدة فيكون نزيلها ... وهذا له حقوق كثيرة، وليس عليه التكاليف التي تلتزمها القبيلة، بل هو محترم، مرعي الجانب، عزيز المكانة ... والحشم يترتب عند اهانته من آخر ... وقد تتقاتل القبيلة فيما بينها من جراء ما يصيبه من ضيم او تعد ...
وهذه خصائص معروفة للعرب من قديم الزمان، ولا تزال الى اليوم، والإسلام زادها قوة وتمكينا بحثه على مراعاة العهود ... إلا أنه وجهها للصلاح ...
[٢٠ - البينة]
يقال في المثل (البينات يطردن الذمايم) ، ويقولون (الشاهد ماله حتن) أي مدة، وتقبل الشهادة الخطية، ويقبل الشاهد واليمين وهذا في الغالب لا يكون إلا في المسائل المدنية أو الشخصية ... وأما القتل وما ماثل فهذا له أحكام خاصة وذلك في حالة النسف وهو دفع الخصومة وتوجيهها الى آخر وفي هذه الحالة لا يسمح الا شاهدان. وتقبل الشهادة من اثنين على شهادة الميت؛ والمرأة لا تقبل مفردة.
[٢١ - النسف]
وهذا أغرب من سابقه. نرى البدوي لا يوجه عليه إلا اليمين، وإن المطالبة تتوجه عليه حتى يفصل النزاع بواسطة العارفة ... فإذا طلب القاتل الرجوع الى العارفة وقال لا اريد إلا الحق ووافق الطرف المخاصم حينئذ وقبل توجيه اليمين قد ينسف المطالب بالدية. وذلك أنه يقول ان الضارب فلان وشهودي فلان وفلان ... ! فإذا قدم الشهود صرفت المقابلة عنه وتوجهت الى من شهد الشهود عليه. وهذا لا يثبت عليه الحكم بمجرد هذه الشهادة فهي لا تفيد أكثر من توجيه المطالبة الى آخر ... ! والبدوي في الغالب يأنف من هذا التوجيه ويدفعه بما أمكنه، وقد يقدم على الحلف ولا يوجه المطالبة على غيره..