ولم نر الدولة تغلبت على امارات العراق الا فى عهد المماليك أحيانا وكانوا أبصر بأحوال الامارات وطريق الاستيلاء عليها. ولعل المماليك أول من تمكنوا من اخضاع الامارات نوعاً باستخدام بعض العناصر على الاخرى. وهذا الحال اقتبسته الحكومة من أصل الدولة ونفذته على عناصرنا واماراتنا. ويرجع ذلك فى الحقيقة الى أيام حسن باشا الوزير (فاتح همذان) . فانه نجح فى خطته. استخدم (باب العرب) للعشائر للتفاهم معها. وجعل لها ادارة خاصة مرتبطة بالوزارة رأساً، فتابعه من تلاه أو مشى على سياسته. وكل هذه التدابير لم تكن وسائل للقضاء وانما هى تدابير للاذعان.
وامارة المنتفق تجاه هذا بين قوة وضعف. تدارى مرة، وتثور أو تجمح أخرى وتستغل موقفها أحيانا وبسلطة محدودة.. فتتبعثر الامارة مدة أو تبدل رياستها بأخرى منها ... وتخذل تارة أخرى. وفى وقائع المنتفق ما يبصر بالاوضاع لمختلف الازمان. وفيه ما ينبه العراقى الى ما جرى على هذا القطر من تحكمات. وفى غالب الحالات كانت الوحدة فى العشائر أظهرت الامارة بقوة كبيرة، فلم تبال بما كان يجرى عليها من استخدام العناصر الاخرى فكانت عزيزة الجانب بتناصرها ووحدتها. وللامارة الدخل العظيم فى الاحتفاظ بهذه الوحدة وشدة تماسكها. واذا كانوا تحكموا فيها أحيانا فانهم لم يستطيعوا القضاء عليها.
وهنا عنصران فعالان فى قوام هذه الامارة. (عشائر المنتفق) وأصل (الامارة) . فالعشائر قوة، وحسن ادارتها من أهم اسباب بقائها وتسلطها ولا ينفك هذا التلازم بل أدى الى بقاء الامارة، والقدرة مشهودة دوماً.
والحاجة دعت الى التماسك. وان الاسلحة الجديدة للدولة العثمانية وعزمها الاكيد أدى الى انحلال الامارة. ومن أجل المسهلات بناء الناصرية مما دعا الى الارتكاز مقروناً بالقوة. ومن ثم ظهرت كل عشيرة وبدت رئاستها، وتعددت بعدد العشائر. وكان ناظمها العشائر الكبيرة مثل الاجود وبني مالك وبني سعيد. وان زوال الرئاسة وسلطتها سائر الى الاضمحلال بتكون القرى والبلدان فتصير محدودة فى علاقاتها فى العشائر. وعاد الرؤساء يشعرون بذلك.
وكل ما فى الامر أن العشائر الكبيرة والامارات بقى أمرها تاريخياً، كما ان الرئاسة العشائرية سائرة الى الزوال أو تكون محدودة بميل العشائر نحو تأسيس القرى الكثيرة والمدن ... بانعدام تلك الاوضاع للالفة بين الحكومة والاهلين والتفاهم من طريقه.
[تكون الامارة]
ان تاريخ تكوّن الامارة قديم. وذلك أن عشائر المنتفق كبيرة وكثيرة، وليس من المستطاع أن تذعن لبيت. وانما القدرة فى هذا البيت جعلتها تذعن وبالتعبير الاصح ان الحوادث وتواليها جمعتها فى الرئاسة ذات المواهب ... ولم يخل بها أو يضعضع أمرها ما قامت به الدولة العثمانية من حركات عسكرية للقضاء عليها بل مكنتها، فاثبتت الكفاءة بادارة عشائرها والجدارة بحزم فى التفاهم معها.
ويهمنا أن نقول ان هذه الامارة كانت مسبوقة بامارات أخرى، عرفنا منها (بني أسد) ، و (بني معروف) وكانوا من ربيعة المنتفق بن عامر ابن صعصعة وبنو معروف انقرضوا سنة ٦١٦هـ وكان أول تكونهم سنة ٥٥٢هـ - ١١٥٧م. حلّوا محل بني أسد. وجاء فى ابن الاثير فى حوادث سنة (٥٩٠هـ - ١١٩٤م) ما يعين سياسة الدولة العباسية تجاه العشائر فى حالات نزوعها الى ما يؤدي الى الاخلال بالامن (١) وان الوضع يلهم السياسة أو يعين التدابير المتخذة سواء فى عهود الدولة العباسية أو فيما بعدها. والامر غير مقصور على (ربيعة المنتفق) وما تولد فيها من امارة بني أسد وانما كان فى امارات أخرى كامارة (بني شيبان) وامارات أخرى ... ومن ثم عرفت فى المنتفق. وامارة المشعشعين وهى امارة دينية للتوصل الى السلطة حكمت واسطا مدة. ثم ظهرت امارة المنتفق فى (آل شبيب) . وهى موضوع بحثنا.
واضطربت الآراء فى تكوّن هذه الامارة وتاريخها. ولا شك أن أهمية هذه الامارة تدعو الى معرفة ماضيها، والاتصال به. أحدثت دويا فى تاريخ العراق، وخذلت قوى الجيش العثمانى مرارا عديدة، وحكمت البصرة زمنا طويلا، وزاد نطاق سلطانها الى أكثر مما هو معروف اليوم من حدود (لواء المنتفق) .