وبنية هذا عبر من الجزيرة لغربي الفرات عندما تولى وزارة بغداد سعيد باشا لما بين عمه فارس وآل العبيد من الضغائن لاسيما اميرهم قاسم بن محمد الشاوي. وقد كان سعيد باشا ولي زمام اموره لقاسم فلما بين فارس وقاسم المذكور لم يستقر بنية في الجزيرة فنزل بعشيرته على خزاعة في سنة ١٢٣١هـ - ١٨١٦م ليكتال ومن ثم حدثت المعركة التالية وذلك: ان شيخ الرولة من عنزة المعروف بالدريعي أرسل الى حمود بن ثامر شيخ المنتفق فاستنفره فنفر بفرسان عشيرته لمساعدة الدريعي لما بينهما من الائتلاف. وكذلك خرج عسكر الوزير سعيد باشا وهم عقيل وكبيرهم قاسم الشاوي فقامت الحرب على ساق وقائد شمر بنية وهذا ما كر على جناح أو قلب إلا هزمه حتى تحامته الفرسان فقدر الله عليه في بعض كراته أن أصابته رمية بندقية فخر من صهوة فرسه قتيلاً. (١) ثم قال صاحب المطلع أيضاً: ولما لبنية من المكارم والشجاعة وارتفاع الصيط وللمودة بيني وبينه رثيته ارتجالا ... (٢) وذكر قصيدة طويلة مطلعها:
قضى فلدمعي في الخدود سفوح ... هزبر عليه المشرفي ينوح
أغر كريم النسبتين من الأولى ... فخارهم كالنيرين يلوح
وجاء في عنوان المجد في تاريخ نجد أنه كان لحقه فارسان فلما أحس بهم أو أنهم دعوه للمبارزة جذب عنان جواده جذبة منكرة ليجرفه عليهم فرفعت الفرس رأسها ويديها وسقطت على ظهرها إلى الأرض وهو فوقها فصار تحت السرج والفرس فوقه فأدرك وقتل (٣) . وكان عمه فارس معه في هذه الوقعة.
وأما أثر قتلته هذه فكان كبيراً وله وقع في نفوسهم.
ومما قاله ابن عجاج في وقعة المنتفق هذه مقابل انتصارهم الأول على آل الشاوي يخاطب شيخ المنتفق ويذمه على افتخاره في قتلة بنية. وكان هارباً من آل محمد ونزيلاً عند المنتفق. ينقلون أنه قال:
خذلت شيخ دوم يخذلك ... وعطيت له حبل الشرك وثم كفيت
تسعين راس من كومك غدت لك ... وشعاد يا خصّاي الدياج سويت
يرمي البدوي قبائل المنتفق في خصي الديكة وهذا ما يتهمهم به ويعده أمراً معيباً ... ويقول خذلت شيخاً كان يخذلك دوماً وقد قتل تسعين من قومك فماذا فعلت ... ؟! وعلى كل حال كانت وقائعه مشهورة. ولكن نهضة آل الشاوي للمرة الثانية مما ضعفت من عزمه فتألب القوم عليه وحارب حتى قتل بمناصرة من الحكومة والمنتفق وعنزة.. وإن عمه كان ولا يزال حياً ومعه في هذه الوقعة..
وقد مضت مدة حتى استعادوا مكانتهم أيام داود باشا وبهم استعانت الحكومة وبغيرهم من العشائر على حرب العجم في أيام الشيخ صفوق (صفوك) ابن فارس وهذه المغلوبية التي أصابت بنية لم تؤثر على قبائل شمر وإنما هي حرب مبارزة ولم تكن حرباً حاسمة..
١٦ - صفوق (١)
وهذا أشهر من نار على علم وقد لقبته الحكومة بلقب (سلطان البر) سنة ١٢٤٩هـ - (١٨٣٥م) (٢) ، خلف بنية ابن عمه في مكانته ونال حظوة لدى الحكومة ايام داود باشا الوزير.
هذا وتكاثرت المدونات في أيامه أو أن الذي وصلنا أكثر لقرب العهد. ويمتاز بالممارسة على الحروب أكثر ممن سبقه، وتدابيره في سوق الجيش مهمة. ولا ينكر لأمثال هؤلاء أن ينبغوا في أمر الحروب وقد ذاقوا حلوها ومرّها ونالوا منها الامرّين واعتادوها. فالفطرة السليمة، وعيشة البادية، والرياسة، والتمرن الزائد في أمر الحروب، والذكاء المفرط، مما يعوض نوعاً عن التجارب الفنية خصوصاً إذا كانت ترافقه رباطة جأش، وصبر على المكاره، وانتباه قد يحصل ببضع وقائع محفوظة مع الحالة العملية، فيعوض عن دراسات عديدة، وقضاياهم لا تحتاج الى ما يحتاج اليه في الحروب المنظمة ...
وإذا كان المرء مشبوعاً بحب الحروب ومائلاً إليها بكليته، وبيئته مساعدة للقيام بأمرها دائماً، أو مراعاة ما يعوض عنها من مطاردة الصيد أيام السلم، فهناك حدّث عن الشجاعة، وعن الخطط الحربية، والتدابير الصائبة ولا حرج. ولو دوّنت وقائعهم التي يقصونها، والوسائل التي يتخذونها لتنفيذ خططهم لهال الامر أو لحصل الاذعان في الكفاءة لهم والمقدرة.
ومن المؤسف أن تصرف الهمم لأمثال هذه الأمور في غزو بعضهم البعض وكل واحد نراه ماهراً فيما زاوله. والخطر والصعوبة في أن ينال الواحد من الآخر حظه ...