للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الحياة البدوية خشنة جافة، ما أصعبها وأقواها، وأقسى مصابها، وأسوأ حالتها، وأنكى آلامها حينما تنقطع السبل في البدوي، حياة شظف، وعيشة عناء ومخاطر..! وهذه لم تكن كذلك دائماً، وإنما هناك أيام الربيع، وأيام الراحة، والطرب، ومجالس الأنس، وأوقات الغنائم ... يتجول البدوي بين خمائل الأزهار، ويتحول من نفح وطيب، الى تضوع وروائح ... ويتمنى أن لو دام، وبقي هو وعشيره يرعيان البهم يردد معنى ما يقوله الشاعر:

فيا ليت كل اثنين بينهما هوى ... من الناس والأنعام يلتقيان

فيقضي حبيب من حبيب لبانة ... ويرعاهما ربي فلا يريان

ربيع جميل، وخير متدفق، زائد عن الحاجة، ورخاء ونعيم، لا يعوزه الا الدوام، والغنى الوافر، والأمن الدائب، والقوة المنيعة ... وهناك الحياة الطيبة، والعيشة الراضية، والأمل الكبير، والعمر الطويل ...

وكذا الحضري لو رآها تمنى أن يبعد عن غوغاء الحضارة؛ وضوضاء المدن، وعفونة الهواء، وضيق العطن، والانهماك في ملاذ لا حد وراءها، نغص في العيش، وسهر دائم، وعلل متوالية، وأمراض فتاكة، وإذا أضيف إليها قسوة المجتمع وظلمه، فهناك الويل والثبور ... ورغب في هذه الحياة الهادئة المطمئنة ... ! والحياة لا تبقى على حالة، وهذا النعيم لا يطول، قصير عمره، مستأهل تخليده، لو أن حياً خالد ... مشوبة بغزو وقتل، ونهب وسلب، ومنغصات كثيرة، ومزعجات عديدة ...

هذه البادية في أقاصي المعمورة، وأبعد المنقطعات لا يرغب فيها المتنعمون، ولا أهل الثراء، منغصة دائماً، ومكدرة دوماً، ما أحلاها أيام الربيع وأصعب مركبها، وما ألطفها في سني الخير وألذ حياتها لولا ما فيها من تلك المنغصات.. مشوبة أفراحها باتراح وصحتها بعلل، وشبابها بشيخوخة، فإذا قال الأول:

لا طيب للعيش ما دامت منغصة ... لذاته بادكار الموت والهرم

فكيف اذا كانت الحياة في بيداء جرداء، وعادية عوادي، وهجوم ضواري وحرارة قيظ، وبرد وقر.. لا يهدأ البدوي من قلق وتوقع اخطار ... فهو دائماً في بصيرة نافذة، والتفاتات جميلة، ودقة فكرة ... يصدق عليه انه " ثعلب البادية " او " جن الارض "، ومضرب المثل في الذكاء (العربان غربان) : علمته البادية ما نحن بحاجة الى الاخذ ببعضه، ومدرسته الصحراء، وكتبه الحوادث، وعلمه حب الحياة، بل هو (شيطان الفلاة) ، او (عفريت الموامي) .

يهزأ من علمنا، ويسخر من فكرنا، بل يقطع في جهلنا، ويرى ان حياتنا مطردة وعلمنا مكرراً، ومثله عملنا هو كل يوم على رزق جديد، وفي ابتكار عميق، ودقة فائقة، ولا تخلو حياته من افراح، ومن مجالس أنس، وطيب عيشة، ويرى ان مزعجاته قليلة، ويعد عناءه راحة، ولا يشعر بخطر ... اعتاد هذه الحياة، والف الحالات المفاجئة، بل قد يخطر باختياره، ويناضل برغبته ...

وكل ما نقوله عنه انه:

ينام باحدى مقلتيه ويتقي ... باخرى المنايا فهو يقظان هاجع

حياة رياضية بطبيعتها، في سباقها وصيدها، وفي غزوها وافراحها والعابها، حياة النضال، والجيش المدرب المعود، يقومون بهذه لا للتمرن وحده، بل للاستفادة.

وفي بيان بعض عوائدهم منتزعة من امور واقعية تبصرة لما هم فيه، وهي ذات مساس بالآداب او لا تنفك عنها ... ولا تقتصر على فصل القضايا المصطلح عليها بالعرف القبائلي، وانما هي بعض هذه المطالب، نريد بها ان نعين الحالة التي هم عليها موضحة بامثلة ترغيباً في تتبع زائد، واتصال مكين، وتدوين صحيح ...

[٢ - الزواج - النسب]

من سمر البادية، ومن اكثرما يلهج به البدوي اختيار الزوجة، ومراعاة آصلها، وطيب نجارها، وعراقة نسبها، وهي عونه في حياته، أو شقاؤه ومذلته، ويلهج العربي بقوله (العرق دساس) ، و (ثلثا الولد لخاله) ، و (دور علي المنسب ترى الخال جرارّ) ، و (بنت الذلول ذلول) ... وكلها تدعو الى لزوم التحري عن الزوجة اللائقة ... وأساساً ان الزوجة ليست بضاعة تشترى أو تباع، وتتداولها الايدي ... والقوم اذا راوا أدنى عيب في القبيلة يتوقون من الاتصال بها، ويتباعدون خشية ان يدس العرق، واذا كان المخول رديئاً نراهم يتباعدون حذر ان يتورث عرق الخؤولة ... وهكذا الوراثة مرعية عندهم في الخيل والابل ...

<<  <   >  >>