وقفت المطالب عند هذا الحد. وفيها يتجلى الذكاء العشائري، واتخاذ التدابير له أو محاولة ما هنالك، فيعرف ذلك من الجانبين، مع ملاحظة دقة المطالب من المتخاصمين والمقارعات الفكرية بصفائها منهم ومن المحكمين، وكذا ما حاول الاداريون التملص منه.
ومن هذه يتجلى لنا أمر (السياسة العشائرية) وعلاقاتها، والإدارة واتجاهها. أو خذلانها ... وكذا ما يطلب منها من وجوه الحل في الحسم، أو ما يعدل به عن وجه الصواب، فيسعى كل للاقناع من طريق الدليل، واستجلاب الحكم، فرأينا العجب في القدرة، وكذا الاداري خرج كما دخل، وهكذا المحكمون دخلوا وخرجوا. وكل منهم مملوء بالمعرفة مشبع بالفكرة على وجه الصواب ... ولكنهم اعترفوا بأنهم عادوا بالفشل الذريع.
والملحوظ أن الخصومات ظواهر، وان وراءها ما يجب حله، ويحتاج الى خبرة كاملة مكينة، مع علم غزير، وسياسة حقة ... والذي يؤسف له أمر التطاول في ما يقتضيه الحل السريع القاطع لئلا يدأب النزاع ويستمر. ولعل الالتفات كان يقتضي السرعة ويدعو للالفة، أو حدوث الصلح الحقيقي بحيث لا يضمر الواحد للآخر نوايا سيئة ... وخلافه لا يفيد البتّة.
ومثلها يقال في بني لام سواء في سيطرتهم أو في أمر آخر وتاريخ هذه العشائر بل الامارات مما يستدعي الحل، ويؤدي بنا الى المعرفة الصحيحة ولا يغب عنا ما ذكر. وانما يعرف من مجرى الحوادث التاريخية المهمة.
[عرف العشائر]
العشائر الريفية يجري بينها عرف. ومن أهم ما هنالك: (١) النزاع على الأرضين. وهذا أصل في وقائع طاحنة، وحروب مستمرة. ولعل التسوية آخر دواء لقطع الخصومات. ولا يهمنا إلا ما كان ضمن موضوع بحثنا. فالمقاطعات القريبة من المدن جرى حسمها، واستقرت تسويتها ولكن البعيدة لا تخلو من تحكم الرؤساء، وما حصلوه بعشائرهم حازوه لأنفسهم دونها. كأن هذه العشائر لم تنتفع من أرض ولم تباشر زرعا، ولا حرست ارضها بقوتها ودمائها.
وبذلك نرى حقوق الفلاحين منتهكة. والمهم أكثر ما كان النزاع فيه قائما بين عشيرتين فأكثر وأصله من الاراضي الاميرية الصرفة مما لا يستغل أو أن الخلاف عليه مستمر ... ولا قول في ما حسم. فقد أبديت المطالعة فيه في أول الكتاب. وانما المهم ما لم يكن قد حسم. وهذا يدعو للالتفات ويؤدي الى النزاع الكبير.
وفي مواطن عديدة لا يزال النزاع قائما ويؤدي أحيانا الى وقائع مؤلمة. والامل أن يتولى حسم النزاع في الاراضي من كان ذا خبرة مكينة، ورأي حصيف وأرادة قوية وإدارة حقة. فأراضي العمارة وأراضي المنتفق، وأراضي أخرى كثيرة سببت منازعات جمة. ولا تزال من أهم مشاكل الارضين في العراق.
وكنا نأمل من اداريينا أن يقدموا مذكرات لمعرفة الآراء وصور الحل التي زاولوها، أو قاموا بامرها في الارضين أو في الدعاوى الكبيرة بين العشائر لتكون موضوع المناقشة فلم يتيسر لنا الا ما علمناه من بعض الوقائع. وهذه مهما كانت كثيرة فأنها لا تعد شيئا بالنظر للكل، لندرك الاوضاع تماما، ونتبين ما في الإدارة من صلاح أو غيره. وكأن مثل هذه سر من الاسرار لا يصح أن يبوح به أحد أو لا يكون موضوع نقاش وأبداء رأي أو آراء. في حين أنها تكون موضوع الاجتماعي والحقوقي والاداري.
ومن المهم ان نقول ان التسوية لم تحل خلافا بوجه مرض، ولا راعت في كثير من المواطن حقوق الفلاحين، فكأن هذه الارضين لم يقم بها غير واحد أو آحاد في زراعتها واستغلالها، فمشكلة التسوية زادت في الطين بلّة. ومنحت اللزمة لأفراد معدودين بأعتبارهم رؤساء، ولم يجسر أحد أن يطالب بحقوقه ... والا فلا يعقل ان يستثمرها واحد أو آحاد. ومن ثم تولدت مصيبة عظيمة بحرمان الزراع من حقوق تصرفهم أو لزمتهم. وكان الاولى أن لا تجري تسوية ما لم تستطع الدولة السيطرة على الاراضي التي ترغب في أنهاء تسويتها وتثبت حقوق زراعها.