وبعد فان العشائر الريفية فى المجلد الثالث تناولت (الزبيدية والطائية) وما يتصل بهما من قحطانية وحميرية. وفى هذه المرة أذكر عشائر المنتفق وربيعة وما يمت اليهما أو يتصل بهما من عشائر كعب وقيس وتميم وعبادة. وهكذا عشائر بنى هاشم وما اليها من عشائر عدنانية أخرى. وبهذا نكون قد استوعبنا (العشائر الريفية) ، بل ان هذه المطالب لا تحصى وربما تجر الى ما لا حدَ له ولا استقصاء. وفى هذه الحالة لا نهمل (العشائر المتحيرة) مما لم نتمكن من ارجاعه الى أحد الجذمين القحطاني والعدناني.
وليس فى هذا ما يشم منه رائحة طعن أو نعرة. وانما الانساب تعين الصلة بالماضين والتعريف بالحاضرين وعلاقاتهم. وليس فى ذلك شائبة اثارة عداء كما توهم بعض من لم يدرك المهمة، ولم يفهم الموضوع. فان التذكير بالقربى تحقيق للمناصرة، والتعاون فى الشؤون الاجتماعية والخيرية وسائر المساعدات لما فى ذلك من تحكيم قوة الاواصر، وتوكيد التعارف. ولا يكون ذلك سبب العداء، ولا وسيلة اثارة البغضاء فان الاسلام منع منعا باتا من الركون اليها. ولا تزال فى كل الامم تراعى القربى والاواصر ويرجع ذلك الى الماضى البعيد أو القريب.
سبق أن أوردت قسما من العشائر الريفية. والآن أدخل فى مطالب القسم الآخر منها أعني العشائر العدنانية تحقيقا للاغراض العشائرية. ولكل مجموعة من الاوصاف ما تختلف بها عن الاخرى من عرف، أو آداب، أو خصال اجتماعية. ولا ينكر فى هذه الحالة تأثر بعض هذه المجموعات أو كلها بمن تقدمها فى السكنى، ولا نجحد بوجه ما الاختلاط وأثره فى اكتساب عوائد جديدة، كما لا ننكر الميل الى المدن واختيار المعيشة فيها بالنزوح اليها فتغلب العنصر العدنانى وحل محل سابقه.
ولا شك أننا فى هذا النوع من العشائر الريفية نتناول شيئا جديدا، ونبحث فى ما يتعارض وغيره من خصال ثابتة أو ما اكتسبته العشائر من المحيط ومن العشائر المتجانسة. بل أثر فى من ساكن هؤلاء من العشائر فى تغلبه وهذه حصلت على صفات نجدها دخيلة فى العشائر الزبيدية أو القحطانية التى عاشت معها ففقدت أوصافا كثيرة مما عندها، واقتبست مزايا جديدة لا تباين أوصاف الكثرة ولا تخالفها بل اكتست كسوتها وصارت مثلها. وان كانت لم تنس نسبها وانما احتفظت به بالرغم من هذا الاختلاط. هذا والله ولي الامر.
[نظرة عامة]
فى العشائر الريفية هذه نرى تخالفا عما فى العشائر القحطانية من أوصاف وتعاملات ولها سياسات خاصة. تولدت منها امارات قوية. وان عشائرها فى هذه الحالة أقرب للطاعة لا من جهة أنها أكثر اذعانا بل من جراء تضييق السلطة عليها صارت أزيد تضامنا، فلم يستطع رجالها ان يشمسوا على الامارة أو يجمحوا عليها.
ومبنى التعاون المتقابل مصروف الى أن الغرض التملص من السلطة العامة (الحكومة) وتكاليفها الشاقة. وعلى هذا نرى سياسة العشائر الطاعة بلا تلوَم، والرؤساء بيدهم الحل والعقد أو زمام الامر بصورة لا تقبل الارتياب. والتوجيه الحق مطلوب من الرؤساء. والطاعة من العشائر.
ومن مسهلات (ثورات العشائر) أنها تابعة لأمر الرؤساء. وان بعدها عن العاصمة، ووضعها الجغرافي فى كثرة الاهوار والانهار، وتشويش أمرها عند الحاجة وما يتعلق بذلك من أوضاع مساعدة على العصيان ... كل هذه أسباب مهمة، وعوامل قطعية. فاذا أضيف اليها ضعف الدولة فى تجهيز الجيوش، واضطراب أمورها فى ثورات أخرى علم ان ذلك كان من أكبر البواعث لتلك الثورات ونجاحها فى أغلب الاوقات.
ولا تنجح الدولة فى حالة من تلك الحالات الا أن تتفق فى الخفاء مع الرؤساء الآخرين الطالبين للرئاسة من مستغلي الاوضاع وحينئذ يصح أن تكون نجحت الدولة لما تشاهد من الميل نحو المتفق الجديد معها فى السرّ، أو الذى يتيسر جلبه مع قوة الحكومة التى تساعد مهمته. وربما يكون ذلك جعليا مصطنعا فى هرب الرئيس وانهزام قوته وميل قسم كبير مع الرئيس المتفق مع الدولة فيربح الواقعة بسهولة فى هذه الميلة فينقذ عشيرته من الدمار. وفى كل هذا لا يتم الغرض دون استخدام جيوش كثيرة تأتي من بلاد الترك للتسلط لمدة قصيرة ثم تعود الحالة اذ لا تقدر الدولة أو الحكومة أن تلتزم الجيش لمدة طويلة لا سيما في الغوائل الكبيرة ومراعاة أوضاعها. وفي تاريخ العراق من الوقائع ما يصلح أن يكون أمثلة موضحة.