ان وزارة المالية الجليلة رفعت عنها غائلة كبرى بوضع الاستهلاك فقلت علاقتها مع العشائر، فلو ادعت قضايا العشائر المدنية العادية، والأحوال الشخصية الى المحاكم، ووعي في حسم قضاياهم الجزائية مادة (٤١) من قانون العقوبات بايداعها الى المحاكم قلت تدخلات الإدارة وزالت عن الإدارة غائلة اكبر، وتكون الأمور قد اودعت الى اهلها، وانقذ العشائر من اذى المراجعات الطويلة أشهراً، وسنين ... وزالت الاعتراضات الموجهة ... وحينئذ تنصرف الإدارة الى الأمور الاصلاحية العامة وهي كثيرة وأولى بالتقدم على غيرها ... " اه. (١) نشرت هذا المقال في ٢١ ربيع الثاني سنة ١٣٥٤ و ٢٢ تموز سنة ١٩٣٥ كمقدمة لكتاب (تعليقات على نظام دعاوي العشائر) ... والملحوظ أن الادارة في دعاوى العشائر كانت ولا تزال تراعي أكثرياً وسائل الاثبات، والتقارير الطبية فيما يجب مراعاته، وفي هذا تقريب من القانون العام، ولكن تقدير الأدلة في المحاكم أقوى، وأكثر عناية نظراً للاختصاص الموجود ... ولا تخلو اوضاع من اعتبار تقرير مجالس التحكيم كأساس للأحكام التي تصدرها الإدارة وان انعدمت الأدلة، أو قررت الإدانة بلا دليل ...
والأصل الذي يدور حوله الاصرار على قبول نظام العشائر ان المسؤلية الجزائية، أو التعويض المالي لم يكن شخصياً، وإنما ذلك عاماً شاملاً لجميع أفراد القبيلة، أو لقسم كبير منها ... وهذا أمر ظاهري، وإنما كان يقصد بمراعاته أيام الاحتلال ... ان يزيد الاتصال الدائم بالعشائر من جهة، واعتبارهم أصحاب وضع ممتاز من أخرى، او بالتعبير الأصح الفصل بينهم وبين أهل المدن ... ! لتسهل ادارة كل صنف على حدة، وينعزل الواحد عن الآخر لتبعيد بعضهم من بعض ... ومؤاخذة القبيلة، أو قسم منها بجريرة الجانى، واعتبارها مدانة بالدية او ما ماثل مما تاباه الأخلاق الفاضلة، وينفره السلوك الصحيح، وان تطبيق نظام أو قانون كهذا وصمة على الأمة ... في المسؤلية العامة لا على الجاني وحده ...
ومن اهم الاصلاح المنشود ان يكون تشريعنا تابعاً للتقدم العلمي والأدبي، لا أن يكون رجوعاً الى الوراء وعودة الى الجاهلية الأولى ... !! هذا ولعل في هذا البيان ما يبصر نفس القوم في ادراك ضرره، ودرجة اجحافه بالحقوق فيطلبوا الغاءه، ويعجلوا في امر اهماله بل نبذه نبذاً تاماً ... !!
- ١٠ -
[آخر القول في العوائد]
اذا كانت الأمم المتحضرة تقوي آدابها بطرق مختلفة، وتتخذ الوسائل الكثيرة لتمكينها سواء من ناحية التعليم، او الجرائد، والدواوين الشعرية، والمجامع العلمية؛ والمطبوعات المختلفة والنشريات المتوالية ... فالبدوي يلقن عوائده وآدابه، ويحببها بوسائل شبيهة بتلك أو قريبة منها، ومن أهمها، الأفراح، وأيام الأعياد، والدواوين وهي المجالس والمجتمعات وسائر الحفلات والاجتماعات ابان الحروب، وفي السباق نسمع حداءهم، وطواحهم، أو هجينهم، أو قصيدهم، وحكاياتهم، والهجاء والمدح ...
تقدمت أمثلة بعض ذلك، ومن أهم ما يراعيه البدوي لهذا التثبيت التكرار، وأكثر أوقات البدوي فراغ وراحة، فلا يخلو من تذكر الوقائع، وتكرار مباحثها، وتخطر الحوادث أو قصصها ... وأحرص ما يكون عليه ان يقص حوادث نفسه، أو الوقائع الكبرى لاسلافه يفتخر بها، ويعد المآثر، وبيان ما أصابهم من مصيبة، ثم الانتصار على العدو أو شرح طريق النجاة ... وفي الآداب ما يعين صفحة مهمة لتقوية العوائد، فترسخ، ولا يرى البدوي خلافها، ولا يقبل المناقشة فيها ... وللتلقين أثره في القوم ...
وكتب الأدب ودواوين الشعراء طافحة بما عند القبائل من عوائد قديمة، وفيها شرح نفسيات لا تختلف في الأكثر عن عوائد هذه الأيام ... وكلها تكاد تكون متماثلة في أوضاعها العامة، والمجتمع لا يرضى باهانة، ولا ينام على ضيم، ويكرم ضيفه، ويعزّ جاره، ويحتفظ بعهده. ولكنه لا يخلو في وقت من مراعاة بعض الحالات الداعية للتفاؤل أو التشاؤم كما مرّ في الخيل، وفي حالات أخرى كالتطير من (العرضة) وهي أن يعترضه آخر ويسأل عما هو ذاهب إليه أو ينهاه من الذهاب، أو يسمع صوت طاير، أو يمر به حيوان فيستاء أو يستبشر ... مما لا يستقصي تعداده ... وأهل المدن لا يخلون من أمثالها وللثقافة وتعميم التعليم أثرهما في ازالتها ...