واذا تمت الهجرة حدثت اوضاع جديدة في الحضارة بدخول عناصر جديدة، وفي الارياف لظهور أقوياء لا يزالون في قوة طبيعية ممرنة ... وهناك اكتساب أوضاع او حالات غير ملوفة، ومن ثم تتغلب وتستقر ولو بعد حين عادات أهل الارياف بالاختلاط والالفة الطويلة، ولكنه تترك أثراً من البداوة فيها فلم تتخلص منها.
مضت بعض الامثلة في حادث ظهور زوبع العشيرة المعروفة، وشمر طوقة وعشائر عديدة تقربت الى الارياف بالنظر للقطان الاصليين من أهل الارياف حتى حصلت الالفة، فلم تلبث أن فقدت الكثير من خصائصها وآدابها البدوية. وهذا مشاهد في المسعود، وفي بني لام وعشائر عديدة.. وأثر الآداب اوضح.
ومن أهم خصائص الارياف: ١ - التقيد بأرض بعينها. وهو أشبه بالاستقرار.
٢ - العوائد. ولها بحث خاص. وقد يفقد البدوي الكثير منها بميله الى الارياف، ويكتسب عوائد جديدة.
٣ - الانساب. وتغلب المحافظة عليها، وهي أقل تأثراً في حالة التحول من البدو الى الريف.
٤ - الآداب. وهذه متحولة كثيراً. وأمرها مشاهد في اختلاط العدنانية بالقحطانية وبالعكس ... وقد يبقى أثر الواحدة مستمراً الى حين ولكنه محكوم عليه بالزوال.
٥ - الغزو. وهذا انعدم تقريباً. أو انقلب الى اثارة العداء بقصد الوقيعة. أو انحصر في الدفاع عن الكيان.
وبعد أن ذكرت هذا في حينه انعقدت (حلقة الدراسات الاجتماعية للدول العربية - الدورة الرابعة في بغداد) من ٦الى٢١آذار سنة ١٩٥٤م فكتب بحثا بالعنوان والموضوع التالي:
[التحولات الحديثة في توطين البدو في الحاضر]
والمستقبل وآثارها الاجتماعية والاقتصادية " الحرب العالمية الاولى والثانية مما نبّه من الغفلة، وبصّر بحياة الاقوام في اظهار قدرتها، وبالامكانيات العظيمة وحدودها الواسعة النطاق التي لا تزال في فيض وازدياد ونشاط ... وهكذا توالت الاتصالات بكثرة وسائط النقل، وسهولة وصول الاخبار، فأدت الى اختلاط. وهذا الاختلاط قد شمل الكرة الارضية ... فهل تعد عشائر البدو بنجوة من هذه مع ان العربان غربان؟ أو انها لم تشاهد أوضاعها، ولم تشعر بالقوة؟ كفى ذلك أن يلفت نظر الساهي، ويوقظ النائم، والعشائر البدوية تحاول أن تنال نصيبها من هذه الحضارة وأن تكتسب ما اكتسبت الامم من قوة وعزم لا سيما وأن البدوي ممرن على الفتوة، معود على النشاط، فهو في حل ومرتحل، لا يستقر على حالة، بل هو في حركة دائمة لا يهدأ، وهو أسرع لقبول التحولات الحديثة في النظم الاجتماعية على ان ترافقها حياة اقتصادية طيبة. يريد ما نريده نحن، ويطمح الى ما نطمح اليه الا أننا نراه مكتوف الايدي، مقيداً بالحالة الاقتصادية والامكانيات، فلو تيسر له ذلك لا يتردد في قبول الحضارة بل هو أقرب الى الظهور فيها. ولم يلجأ الى الغزو في سالف عهده الا لضيق ذات يده فهو في حاجة الى التوجيه والمساعدة لينهض ويظهر.
والنظم الاجتماعية في القبائل مكنتها الحالات القسرية والاوضاع القطعية وتارة التحكمات وهذا ما ندعوه ب (العرف العشائري) . فاذا زالت الاسباب ابدل ما عنده بالنظم الشرعية. أو ما ندعوه بالنظم الحديثة. فاذا رأى البدوي أن امواله مصونة، وان حياته هادئة فلا يرى صعوبة في القبول ولا يتردد لا سيما انه اذا رأى في حياة الارياف ما يسد احتياجاته انصاع حينئذ الى ما تصبو اليه تلك الحياة من نظم، وقبل الحضارة وتحولاتها الجديدة بلا نفرة. وهكذا فعل اسلافه ممن مالوا الى الارياف أو المدن. فالبدو يناضلون بقوة ويقارعون أهل الارياف ليزيحوهم ويحلوا محلهم. وأن هؤلاء يدافعون ويناضلون ويحاولون صدهم باتفاق مع العشائر الريفية الاخرى. وهذا النزاع والمثابرة عليه حرب دائمة ومن ثم يغتنمون الفرص فيحلون تدريجياً لينالوا ما ناله اهل الارياف من رفاه نوعا ما، وقد تحدث جوائح من طواعين او حروب طاحنة او قحط وما ماثل ذلك فتؤدي الى خلل في نفوس الارياف، او ما يدعو ان يميلوا الى المدن لما انتاب من حروب، او ان يركنوا الى العشائر القوية وينظموا اليها فينزع البدو الى الارياف ويحلون المواطن الريفية.