وبعد احتلال البصرة، من سنة ١٩١٥م أخذ يطبق على العشائر (بيان العشائر) ، وألزم الحكام الانجليز بمراعاته، وبعد الاستيلاء على بغداد وزاد شموله وظهر بوضع أوسع وشكل واضح من سابقه، وذلك أنه صدر نظام دعاوي العشائر بتاريخ ٢٧ - ٧ - ١٩١٨م ثم نشر قانون في تعديل هذا النظام في ٢٨ - ٨ - ١٩٢٤، ولم يحصل فيه إلا تعديل طفيف في ١ - ٦ - ١٩٣٣ واستمر العمل بموجبه الى اليوم، فكان غير مرضي في وضعه، ومنفوراً في كثير من أحكامه ... وأكثر ما يؤخذ عليه النظر في احكام المواد الشخصية (الأحكام الشرعية المتعلقة بالأحوال الشخصية) ، والحال ان هذه لم يدخلها العرف، وليس فيها ما يخالف الشرع، وقد اعتادت القبائل البدوية جمعاء ان تسير في المواد الشخصية وفق احكام الشرع، ولم تخالف ذلك في زمن من الأزمان، واعطاء السلطة في هذه الى مجالس التحكيم يقصد منه تبعيد البدو عما اعتادوه من مراعاة النظام الشرعي، وايجاد عرف جديد يبعدهم عما ألفوه من الأحكام الشرعية مع ان القصد تقريبهم تدريجياً الى النظام والقانون والتدخل في أمرها ينافي المعتاد من زمن بعيد جداً هذا فيما سوى النهوة وما ماثلها كالتعدي على العفاف ... وفي الوقائع الفردية بين رجال القبيلة الواحدة ... أو ما يتعلق بأمور تافهة لا تشترك فيها القبيلة، ولا تهدد سلامتها، ولا يحتاج فيها الى نظام العشائر.
هذا وكنت قد قلت كلمتي حول هذا النظام بما ملخصه:" لا تزال قضايا العشائر من كافة نواحيها معضلة كبرى، عويصة الحل، معقدة الموضوع ... تتعلق بأكثرية ساحقة من مجموع نفوس العراق، فلا يصح ان نتغافل عنها، أو نهمل الالتفات اليها دون ان نلاحظ شئونها، ونتبصر في سائر احوالها سواء في اجتماعياتها، او ادارتها وثقافتها، وتأمين تهذيبها، وملاحظة معايشها وراحتها، واقامة العدل بين مجموعاتها وافرادها في كافة ربوعها ... مما يجب الاهتمام به؛ واستطلاع آراء الخبراء من كل صوب في موضوعه حتى تستقر المعرفة، ويتبين وجه الاصلاح وطريق حسن الإدارة ... الا اننا للآن لم نظفر ببغية، ولا شاهدنا تقدماً في الحالة، فالقوم لا يزالون على ما كانوا عليه..
وقضية حسم النزاع بين افراد القبائل موضوع صغير من تلك الأمور ولكنه له مكانته، وأثره في النفوس، لأن النزاع ظاهرة تلك المجتمعات، وعنوان روحيتها ومطالب خلاف أفرادها وجماعاتها ... التفتنا الى حل الخلاف ولم نبال باجتثاث اصله، والتدابير المانعة من وقوعه.! والموضوع نظام دعاوي العشائر وهل قام بالحاجة فسد ثلمة؟ أبدى كثيرون منا آراءهم حوله، ولا تزال تتكرر غالب هذه الملاحظات في الأندية والمجتمعات ونسمع التذمرات من كل صوب ... الا ان جل ما نسمعه كلمات مختصرة، وانتقادات موجزة، أو تعرض لوقائع جزئية ... ولم نشاهد من دوّن ملاحظاته في رسالة لتتوالى المباحث، وتمحص الأقوال وينضح الموضوع فتظهر خوافيه ... ومن ثم تبرز آراء المتتبعين، ويبين الصحيح المقبول....
هذا النظام يحتاج الى جمع آراء مختلفة فيه وتنسيقها وبيان القول الأخير فيها ... فهو غريب في وضعه، جديد في موضوعه، وشكله، لا يأتلف وحالة الأمة التي تتطلب النظام وحسن الإدارة، والسيرة الفاضلة في هذه الحياة ... أحيا في أصل وضعه سنة جاهلية، وإدارة خاصة، وتعاملاً محلياً ... فهو عودة الى ما قبل حمورابي في العراق وقبل ظهور الإسلامية في جزيرة العرب ...
كان العرب قبل إسلاميتهم قبائل مشتتة، وأصحاب عرف خاص، وعوائد موقعية بالنظر لكل قبيلة، أو إمارة ... ولما جاء الإسلام قضى على هذه التعاملات، ومحا من البين العوائد المرذولة وقرر أحكاماً عامة حازت قبولا شاملاً ... وهذه دعت قطعاً الى تحضر العرب المسلمين وسائر من انضم اليهم من الأمم، وانتزع الروح الجاهلي منهم، والسيطرة الشخصية، وساقهم الى نظام عام، واعلن " ولا تزر وازرة وزر أخرى " وآيات كثيرة، وفي الحديث " القتلى بواء " أي لا تفاضل بينهم ...