للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهناك قد حصل التفاهم بين إيران وتركية على التعاون للقضاء على هذه الإمارة ليكونا بنجوة من الغوائل، فلم يستطع آل بابان أن يعودوا للتجربة السابقة بالميل إلى إيران إذ لم يجدوا مساعدة منها بل عزمت الدولتان على المناصرة في القضاء على الإمارة المذكورة، فكان ذلك قبل تحديد الحدود بمدة قليلة.

وإن الجاف لم يعودوا إلى الالتفات إلى أقوال أمراء البابان، وقد رأوا توجهاً من الدولة وحصلوا على مكانة مرضية.

شعر الجاف بقوة، ونظرت الدولة أمر إدارتهم بأنفسهم. فتفاهموا مع الدولة العثمانية، ولم يظهر منهم ما ينفر أو يدعو للقيام عليهم، فبقوا موالين للحكومة حتى أيامها الأخيرة.

ومن ثم قضت الحكومة على الأسرة البابانية، ونالت هذه مكانتها وزيادة. لأنها كانت في خشية من تلك، وأمن وطمأنينة من هذه، فقامت هذه في حراسة الحدود ومراعاة سياسة الحكومة. ولقبت الحكومة أميرها محمد بك كيخسرو بلقب " باشا " مما يعين هذا الاتصال بالدولة. على أن الدولة لم تأمن غوائل الحدود، ولزوم مراقبتها خشية إحداث أمثال ما وقع في بابان مما فصل " تاريخ العراق "، ولكن الحكومة أمينة منها أكثر، وهي " خير حارس للحدود ".

كل هذه مما جعل الدولة تمشي بصورة معقولة. وتنهج سياسة قويمة، ومثلها إيران فإنها ملت الحروب، وصارت تودّ الطمأنينة بكل قواها، فلا إثارة فتن، ولا قيام زعازع أو حروب. والدولة العثمانية خاصة راعت العدل بين أمرائها ومجاوريهم، فلا تركن الى ما يشعرون بشدة وطأته، ولا الى ما يؤدي الى انتهاك الحرمات والحقوق لما هو مألوفهم ومعتادهم.

جروا على ذلك الى أواخر أيامهم، ومضوا على سياسة كأنها ملهمة، أو تابعة لطراز عملي، أو وجهة مبناها الاحتفاظ ب " تقرير ما كان على ما كان "، فلم يعهد لها الاحتفاظ بسياسة رشيدة أكبر من مراعاة هذه القبيلة، وملاحظة العنعنات القديمة بين رجالها.

وفي كل أحوالها كانت لها مخصصات التزام تأخذها منها مقررة لا تتجاوزها ولا تتدخل في أمرها، وإن الأمراء كان ربحهم في هذه المخصصات والاستفادة من عوائدها بصورة متعينة، فكانت العلاقة محدودة. الأمر الذي جعل قبائل الجاف تسرح وتمرح في هناء ونعيم، وبنجوة من الموظفين وتدخلاتهم بحيث صارت القبائل الأخرى من الجاف تتوارد بين حين وآخر لأدنى ما ترى من إيران من تضييق أو تشاهد من ضغط حتى تكون اليوم منها قبائل كثيرة مالت من هناك ولجأت الى العراق.

ومن جهة أخرى أن القبائل لا ترى من أمرائها ما هو مشهود في هذه فلا تجد الأمراء يأخذون " شاة مرتع "، أو تكاليف أخرى تزيد عن المقطوع، فالجاف كانت تؤدي المقطوع للحكومة، ولا تزيد الأمراء فيه مهما زادت قبائلها أو تكاثرت. فالأمر الذي جعل تلك القبائل في اتصال وثيق بالأمراء. يزرعون الأراضي العائدة لهم ويؤدون ما يؤديه سائر الزراع بكلفة أقل، ولا يرهقونهم أكثر مما يتحملون من العوائد. ولم يعرف في أمراء القبائل الأخرى أو رؤسائها ما كان مشهوداً منها من جراء الطمع، ومراعاة سلب القبيلة بقدر الامكان ولحد أقصى حتى لا يبقى مجال لما هو أكثر بقدر الطاقة. ولا حاكم في القبائل الأخرى سوى القوة بخلاف هؤلاء الأمراء فهم بمثابة رأس أسرة، وكبير عائلة يرأف ولا يقسر، ويقوي قبيلته ولا يضيق، وإذا أكل أكل بمعروف.

ذلك ما ولد التفادي، وهو قليل من كثير، وهو الذي قوى الألفة، وحافظ على المجموعة، فليس هناك آمر ومأمور، أو قاهر ومقهور، بل طاعة صادقة وخدمة حقيقية.

وكل ما أقوله أن القبيلة بسعادة وهناء من رؤسائها وفي وئام معهم في أغلب أحوالهم، ذلك ما دعا أن لا يردوا لهم قولاً، ولا يعدلوا عن أمر. ويعجبني أن رضا بك من أمراء الجاف قد أكد لي أن أكثر أوصاف العرب التي عرفها في التاريخ موجودة فيهم وهي تلك السجايا المرضية المرغوب فيها من كل قوم وأمة على وجه البسيطة، وتحلى بها العرب، وتحلت بها هذه القبيلة، بل قبائل أخرى أيضاً.

<<  <   >  >>