وليس من الصواب أن نصدّ عنها وننفر منها لمجرد أنها فضاء واسع، وأرض قاحلة كما تبدو للحضري لاول وهلة دون أن ندرك حقيقتها، وان نعلم أنها عطن قومنا الذي منه نجمنا، والاصل الذي منه تفرعنا، فنكتفي بتلك النظرة، أو نتابع الشعوبيين أعداء العرب وتلقيناتهم الباطلة في أتخاذ الوسائل للتنفير، وتوليد الكره بطرق متنوعة وضروب مختلفة ...
تربطنا بأهل البادية أواصر الدم والقربى، وتجمعنا اللغة والوطن، وتتصل بنا العقيدة الحقة ... ولم يكونوا بوجه على الهمجية كما يتوهم، بل هناك أدارة منظمة وعلاقات جوار، وروابط قربى مكينة، وتحالفات وعهود مرعية وشريعة سائدة مما لم ينفذ اليه الحضري بادي الرأي ولا يدرك كنهه لما تلقى من سوء فكرة، أو لمجرد النظر الى الخشونة وجفوة العيش، وأعتياد شظف الحياة، وضنك الرزق، أو الفة الوحشة في حين أن ذلك من دواعي الحياة الطبيعية التي فقدت المربي الاجتماعي، والتي جلّ آمالنا منها أن العيش في البداوة براحة وطمأنينة، بعيدين عن الضوضاء وعن المشاكل المزعجة مع الرغبة الاكيدة في التوجيه الحق، والتدريب الصالح ... فكل من ذاق طعم البادية لا يود أبداً أن يحيد عنها، ولا تطيب نفسه عنها، أو أن يعدل عن حياتها ... وجلّ ما هنالك اننا نشعر بضرورة الاصلاح، والتنظيم الصحيح ...
ويحتاج من يحاول أن يكتب في أوضاع البادية الى خبرة تامة، ومعاشرة طويلة والفة بمعنى الكلمة، مع رغبة في العمل، وعناية في اكتناه الحالة ليتمكن المتتبع من الافتكار في نواحي النقص، والتعرف لوجوه الاصلاح، فلا تكفي لمحة السائح او التفاتة عابر السبيل، أو أن يؤم المرء مضارب البدو ساعة من نهار، فهذه لا تعيّن وضعاً ولا تؤدي الى الغرض المطلوب من المعرفة، بل يستطيع الحضري أن يكشف عن حياة البدوي بسهولة فيضن انها منغصة بالزعازع والمجازفات، أو تدعو الى مخاطرات، أو أنها كلها هياج واضطراب.
في البادية عيشة هناء، وحياة لذيذة، وربيع وراحة ونعيم، الا انه لا ينكر انها مشوبة أحياناً بغوائل وفتن، او متصلة بقراع وجدال، لا تهدأ فيها فتنة، أو لا تخلو من اثارة غوائل ولكن أي حالة من حالات الحضر هادئة؟ بل لا نزال نرى التكالب بالغاً حده، والاطماع مستولية على النفوس مما كره عيشة الحضارة، وأفسد صفوها، وأقلق راحتها، فعمت المصيبة.
ولو أستطلعنا رأي البدوي في حياة الحضر لوجدناه ينفر من سوء عفونتها ونتن جوّها، أو ما يشوب نسيمها من الكدر، يمر البدوي بالطرقات الضيقة، فيشم ما يكره من روائح، ويدخل الاسواق فتكاد ترديه بفاسد اجوائها، ولعل ساعة واحدة عنده من استنشاق النسيم الطلق، أو يوما من أيام الربيع يفضل المدن وما فيها، فيرى عيشته وما هو فيه خيراً من نعيم الحضر كله ...
وهناك أكبر من كل هذا، يعتقد أن الادارة قاسية، والحكم صارم، بل ربما يعتبره جائراً، ويحسب ان العزة مفقودة، والسلطة متعجرفة، فلا يطيق شدة النظام، ولا يقدر على تنفيذ الأوامر الكثيرة التي لا يسعها دماغه، وإذا كانت البادية موطن الظباء والآرام فهي عرين ألا سود، ولكل ما فيها وجوه دفاعه ووسائط بقائه، والحياة في كل أوضاعها لا تخلو من صفحات خير، ووجوه ضير، وليس هنا أو هناك خير مطلق، فكل منهما مشوب بعناء، ومغمور بآمال، تعتريه ما تعتريه من حالات اضطراب.. وصفحة الأدب تجلو عما هنالك من ضروب هذه الحياة وأطوارها.
ولا نريد أن نسترسل في مدح البادية، أو ذم الحاضرة، أو العكس، وأنما نعيّن ما هو معروف، وان المتمنيات للفريقين أن تكون الحياة سعيدة في الحالتين، فكلاهما ينبغي ما عند الآخر من محاسن ونعم، أو فضائل، وان يجمع بين الحسنيين، وان ينال خير الاثنتين، فيزول ما يكدر الصفو، او يقلل من الشرور ...