ومن المهم ذكره ان الحكومة قد تكون سلطتها قوية وقدرتها ظاهرة فتدرك أصل النزاع وبواعثه، فتسعى للقضاء عليه دون الركون الى الاستغلال. فتمضي في الحل على طريقة مستقيمة. وهذا قليل في العهود السابقة. ومن السخف ان تلجأ الى القوي فتساعده. وفي هذا ضياع السياسة الرشيدة والحق والعدل معا فالامر لم يكن بالسهل لاسيما عند تعادل القوى أو اختلافها. وتعند القوي في مطالبه الجائرة، ومن الواجب ان يحتمي الضعيف بقوة الحكومة فيجد له ناصرا قويا.
والوقائع اليومية، والحوادث التأريخية مما يسترشد به دائما اذا كان ذلك مقرونا بتدقيق الحادث، وادراك صور الحل بمعرفة كنه الوقائع وما ينطوي ضمنها من آمال كل فريق. فالحذق يميط اللثام ويسهل أمر الحل. والمصاعب التي تعترض في هذا السبيل كثيرة جدا بل قد تكون بعيدة أو مبتعدة عن الغرض، فتحتاج الى سيطرة وتغلب. وهذه توضحها الحالات المشهودة والاوضاع، فتكون أقرب الى التفهم.
ولا نقول كل الوقائع بمثابة واحدة من التعقيد، أو ما يخشى أمرها ويتوقع خطرها. ولكن الاولى ان نتدبر الموضوع من جميع وجوهه ليتيسر الوصول الى حل صريح وصحيح أو نمضي في طريقة سالمة ناجحة في حسم النزاع.
ويلاحظ ان حياة العشائر الريفية تعين ما انفردوا به مثل المنازعات على الاراضي أو الاعتداء على المزروعات، أو على الماشية، أو غير ذلك من حقوق شرب أو حدود ... والاعتداء على الاشخاص أو على العرض ... فمن الضروري الاطلاع على أوجه الخلاف وبواعثه وحينئذ لا يصعب الحل بان ندرك ما وراء ظاهره من حاجات مدنية أو اقتصادية دعت للخلاف.
وبهذا تتفاضل قدرة (الحكم) أو (العارفة) ومهارة الاداري ونفوذ نظره. ولا ينكر ان بعض الحوادث تضظرب فيها الآراء فيخفي الغرض أو يتصلب المتنازعون فيعسر الحل، أو ان الطرفين يحاولان الحسم الاداري بأي وجه كان ليعودوا الى نضالهما ... أو أن يكون ذلك ممثلا رغبة أحدهما في الحل.
ومثل هذه يجب أن تعرف. فيوجد الهدف. وكل ما تباعد الطرفان فلا يدع الحازم تدبيره الا وذهب عمله هباء. وفي هذه الحالة يجب ادراك الحق وان لايفلته الاداري ولا يهمل ما خفى، أو ما كتم القوم ابداءه.
ذلك ما يعين حقيقة الاوضاع. وحينئذ نخشى أن نميل الى أمر لا يعد صوابا. وكل واحد من المتنازعين في أدلته يستهدف غرضا. والرأي الحقيقي يظهر البواطن ويعين مكان الحل.
اننا في هذه الحالة نحتاج الى قدرة سياسية وقضائية معا. وقد يعرض للمرء بأن مثل هذه لا توجد في الغالب. والخطل سائد في كثير ممن رأينا. ولا يزال وجه النزاع باديا. وهنا لايهمنا الطعن بالإدارة. وانما تدعو الحاجة الى التوجيه. ولا نلتفت الى أقوال مثل هذه.
تولدت عندتا مشاكل عديدة ولا شك ان هذه كغيرها تحسم بوجه مهما كان نوعها بيد الجاهل والعالم ... ولم يكن المقصود الحسم المطلق والا فبوسع كل أحد ان يقطع النزاع ظاهرا استنادا الى السلطة. ولكنه لم يعمل شيئا اذا لم يكن زاد في المصيبة. ويعنينا بيان المشاكل بالنظر لقانون العشائر في الارياف.
فان الغاء الغزو مما حرم العشائر من فوائد، أو منافع كانوا يظنونها الوسيلة المهمة لبقاء حياتهم فلم يطرأ على هذه الحياة خطر وزالت بما فيها من عرف. فلا شك ان المسؤولية يجب أن تكون محدودة وخاصة بالمسؤول الا ان تكون اجتماعية، فنسأل الجميع كما في (القسامة) المعروفة في الشريعة الاسلامية. فاذا لم يعرف القاتل في قرية أو قبيلة فلا ينبغي ان نتهاون في الحل بأن نسأل الكل. أوضحت ذلك في المجلد الاول. وعندنا في وقائع عديدة الزمت الإدارة المتهم الذي لم تتحقق الجريمة عليه دون مراعاة مسؤولية القرية أو العشيرة التي وقع بالقرب منها الحادث مما يستدعي مسؤوليتها. ولعل بقاء المسؤولية لغير الجاني اعتراف من الإدارة بضعف تشكيلاتها وبعجزها عن تطبيق الحق. واذا كان هذا تدبيرا مقبولا في حق البدو الرحل لضرورة قاهرة، فلا ينبغي أن يسوغ في الأرياففهم أهل قرى اولا يختلفون عنهم. ولم نر قانونا في أمة يلزم بالمسؤولية غير المسؤول حقيقة.