ثم ان الدولة أرادت القاء بذور الفتن، وتشويش الحالة للتدخل، فصارت تتساهل مع بعضهم مرة، وتلتزم الشدة أخرى. وراعت فى الضرائب طريق الالتزام واتخذته وسيلة. وفى كل مرة تنزع قسما من المنتفق، وتوسعه أخرى. وهكذا أخرجت من نطاقها قطعات عديدة بأمل أن تقلل النفوذ والسلطة فانتزعت منها عشائر كثيرة.
وفى كل هذه عزمت الدولة على القضاء على هذه الامارة مهما كلفها الامر الا انها متى شعرت بالخطر بدلت الوزير أو ركنت الى سياسة أخرى ونسبت الحادث الى خرق الوالي الذى لم يتحرك من تلقاء نفسه. وذلك خشية الغائلة أو توقع نتائج غير مرضية. أرادت الدولة أن تكون ديارهم خالصة لها. وكاد ينجح الوالي رشيد باشا الكوزلكلي فى مهمته التى أشبعها درسا لولا انه عاجلته المنية وحالت دون تحقق آماله.
كان قرب المعارضين، واستغل المناوئين، وتعرف للحالة منهم، وسلطهم. كما انه لم يفاجىء فى تغيير الوضع. وانما فصل قضاء السماوة وتوابعه بعشائره، عن سلطة المنتفق، والحقة بالحلة فى الالتزام الذى أجراه بأمل فل القوة. ولم يخف هذا على أحد. فاتفق الشيخ ناصر مع الرؤساء الآخرين فحارب مرات عديدة، وانتصر انتصارا باهرا، فكاد يتغلب.
وفى الحرب الاخرى انتصر الجيش وبقي مرابطا فى سوق الشيوخ. ورفع ما كان يستوفيه أمراء المنتفق باسم (جيوشية) . وهى أشبه برسوم الكمرك الا أنها ليست لها حدود معينة أو مقاييس ثابتة. ولم تتحقق آماله، فعالجته المنية، ولم تعرف نواياه الا ان الغرض القضاء على السلطة العشائرية فحبطت مساعيه. ومن حين استولى على سوق الشيوخ فى ١٤ شعبان سنة ١٢٧٢هـ - ١٨٥٦م عينت الحكومة قائممقاما (متصرفا) حسين باشا من أمراء الجيش، ومدرسا ومفتيا السيد داود السعدي (١) وكان عزمها أن تجعل تشكيلاته تشكيلات لواء.
وبعد وفاته كانت الدولة فى اضطراب داخلا وخارجا، فلم تستطع أن تمضي على خطة ثابتة. وانما تعمل بما يوحي اليها وضعها. فجاء السردار الاكرم عمر باشا. لاكمال ما قام به سابقه من أعمال. فلم تظهر الاوضاع الا متخالفة فى طريق السياسة. فلم يستطع أن يحصل على ما أراد لضيق فى ماليته، أو انشغال بال دولته بأمور أهم.
جاء الوالي السردار الاكرم عمر باشا فى ٥ رجب سنة ١٢٧٤هـ - ١٨٥٧م. ومن حين وروده نقض ما ابرمه سابقه لتبدل رأي الدولة فعوّل على شجاعته، وقوة سلاح دولته، فاستهان بالمنتفق، وعد نفسه قادرا على اخضاعها متى شاء، فالغى سوق الشيوخ، فلم يتخذه مقرا للجيوش. ولا شك ان السياسة المكتومة لم تظهر لرجال الدولة فى بغداد ما عدا الوزير. فأعاد لشيوخ المنتفق سلطتهم وسحب جيشه. ولا ريب ان لضعف الدولة دخلا فلا تريد أن تعرض نفسها الى الخطر، عهد بقائممقامية اللواء الى الشيخ منصور السعدون سنة ١٢٧٦هـ - ١٨٥٩م بطريق الالتزام من جراء انها كانت تستفيد من الالتزام أكثر مما لو كانت تدير رأسا هذه المواطن (٢) .
وفى سنة ١٢٧٧هـ - ١٨٦٠م ولي توفيق باشا بغداد. فجرت فى أيامه المزايدة بين الراغبين فى المشيخة وهم الشيخ منصور، والشيخ بندر الناصر الثامر، فأسندت الى الاخير منهما فى ٢٠ شوال سنة ١٢٧٧هـ - ١٨٦١م ببدل سنوي قدره (٤٩٠٠) كيس. والكيس ٥٠٠ قرش.
وفى وزارة نامق باشا للمرة الثانية كان يظن أن قد حان الوقت لالغاء المشيخة، فأراد أن يقتطع أولا بعض الاماكن ليقلل السلطة، ويحصر دائرة النفوذ فى نطاق محدود. جاراه الشيخ منصور بك بل حسَن له أن يلغي المشيخة رأسا وبلا تمهيد. وكان الشيخ منصور من أعضاء المجلس الكبير ببغداد (١) . فأبدى أن لا حاجة الى اقتطاع بعض المواطن، وأوضح أنه اذا نصبته الدولة قائممقاما (متصرفا) جعل المنتفق كلها تابعة للدولة.
قبل الوالي هذا الرأي، والغى المشيخة فأسند اليه القائممقامية فى سلخ جمادى الاولى سنة ١٢٨٠هـ - ١٨٦٣م. ولما كان لا يعرف اللغة التركية جيدا، وليست له دربة على الادارة جعلت الدولة بصحبته الاستاذ سليمان فائق وكان من الكتاب المجيدين. وكان قائممقام خانقين. وأودعت اليه مهمة (محاسب اللواء) ليطلع حكومته على ما يجري.