للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والحديث يُحمل على غير هذا المعنى، فلعلمائنا فيه أقوال أُخَر تستحقّ أن تُطْلبَ من مظّانها، ولكن يستفاد من الحديث أنّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يخبر بتغيّر الأحوال وفسادها بعد عصر الصّحابة ـ رضي الله عنهم ـ، فهو من أعلام النُّبوَّة؛ لأنّ ذلك من الغيب الّذي لا يعرف بالعقل والرأي وإنّما يعرف بالنّقل والوحي.

ويؤبّد المعنى الّذي ذهبنا إليه من أنّ الحديث لا ينصّ على أنّ كلّ زمان ما بعده شرّ منه قطعاً إلى قيام السّاعة، أنّه سيأتي زمان أفضل من كثير من الأزمنة المتقدّمة؛ فقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنّه ستكون خلافة على منهاج النُّبوَّة، قال ـ - صلى الله عليه وسلم -: " ... ثمّ تكون مُلْكاً جبريّة فتكون ما شاء الله أن تكون ثمّ يرفعها إذا شاء أن يرفعَها، ثمّ تكون خلافة على منهاج النُّبوَّة " (١).

ومن الأحاديث الّتي يسوقونها لتعيش هذه الأمّة في يأس قوله - صلى الله عليه وسلم -: " بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء " (٢) والحديث ليس فيه شيء يوهم بما ذهبوا إليه من أنّ مصير الإسلام إلى ضعف؛ فالمعنى أنّ أهل الإسلام أَوَّل الأمر كانوا قلّة، وهم في آخر الزّمان كذلك إلاّ أنّهم خِيَار (٣).

قلتُ: وكثرة المسلمين أو قلّتهم لا تعني قوّة للإسلام ولا ضعفاً؛ فالإسلام دين الله تعالى، ودين الله منصور بخِيَار هذه الأمّة على قلّتهم بإذن الله إلى قيام السّاعة.

والحديث فيه بشارة إلى استمرار هذا الدّين إلى آخر الزّمان، وأنّ الّذين يشهدون غربة الإسلام ويتمسّكون به لهم منزلة عظيمة عند الله تعالى!

ولا أعلم حديثاً صحيحاً يُفهم منه أنّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يدعو الأمّة إلى القنوط، فلا يُتَصوَّرُ ذلك، وقد أُنْزِلَ عليه وعد الله للمؤمنين ـ عموم المؤمنين ـ بالنّصر: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)} [الرّوم] والنّجاة: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا


(١) أحمد " المسند " (ج ١٤/ص ١٦٣/رقم ١٨٣١٩) وإسناده صحيح.
(٢) مسلم " صحيح مسلم بشرح النّوويّ" (م ١/ج ١/ص ١٧٦) كتاب الإيمان.
(٣) انظر " تأويل مختلف الحديث " ابن قتيبة (ص ١٠٩).

<<  <   >  >>