بوحدانيّة الله، لكنّه استدرجهم ليظْهَرَ عليهم بالحجّة؛ فيحملهم على التَّبرُّؤ من الأصنام والأجرام، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ... (٧٦)} [الأنعام].
أمّا قول إبراهيم ـ عليه السّلام ـ: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧)} [الأنعام] فإنّما قاله لغرض بلاغيّ، وهو التّعريض بضلال قومه، وأنّهم ليسوا على الهدى، وليس الأمر كما قالوا من أنّه كان حيران.
ومن تدبّر الآيات التي يوهم ظاهرها أنّ الأنبياء ارتكبوا ما يخالف عصمتهم عرف الحقّ كما عرف السّواد من البياض. فمنصِبُ النُّبوَّة يجلُّ عن الوقوع في الذّنب، وعن مخالفة الله عامداً متعمداً، ولو جاز ذلك منهم لم يلزمنا الاقتداء بهم!
ولذلك فإنّ الله تعالى يقول لنبيّه - صلى الله عليه وسلم -: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (١٩٩)} [الأعراف] ولا يخفى أنّ الآية الكريمة زاد معناها على لفظها، وهو ما يعرف بإيجاز القِصَر، وهو أعلى طبقات الإيجاز مكاناً، وأصعبها على البلاغيين إمكاناً؛ فقد جمعت الآية الكريمة تحت ألفاظها القليلة من المعاني الغزيرة ومكارم الأخلاق ما أعجز البلغاء، فالآية جمعت مكارم الأخلاق كلّها؛ لأنَّ في العفو صِلَةَ من قطعه، والعفو عمّن ظلمه، وإعطاء من منعه. وفي الأمر بالمعروف تقوى الله وصلة الرّحم، وصون اللسان عن الكذب، وغض الطّرف عن الحرمات والتَّبرُّؤ من كلّ قبيح، لأنّه لا يجوز أن يأمر بالمعروف وهو يلابس شيئاً من المنكر، وفي الإعراض عن الجاهلين الصّبر والحلم والأناة وتنزيه النّفس عن مقابلة السّفيه بما يفسد الدّين، وهذا كلُّه يؤكّدُ عِصْمَةَ الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم -.
وسنقتصر الحديث على الآثار التي وردت في حقّ خاتم الأنبياء والمرسلين محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فقد أمر الله باتّباعه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ... ... (٣١)} [آل عمران] فإذا تقررّ أنّ الله تعالى أمر بالاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - استحال أن يرتكب ما يخالف عصمته.