للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨)} [الأنعام] فظاهر الآيات يوهم بأنّ إبراهيم ـ عليه السّلام ـ عبد كوكباً حتّى غاب، وعبد القمر حتّى غاب، وعبد الشّمس حتّى غابت، وإلى هذا المعنى ذهب بعض المفسّرين.

ومنهم من قال: " وإبراهيم تبدأ قصّته فتى ينظر في السّماء فيرى نجماً، فيظنّه إلهه، فإذا أفلَ قال: لا أحبّ الآفلين. ثمّ ينظر مرّة أخرى فيرى القمر، فيظنّه ربّه؛ ولكنّه يأفل كذلك، فيتركه ويمضي. ثمّ ينظر إلى الشّمس فيعجبه كبرها، ويظنّها ـ ولا شكّ ـ إلهاً! " (١).

وهذا الكلام في حقّ إبراهيم ـ عليه السّلام ـ لا يُرْتَضَى، ولعلّ عذر القائل ـ رحمه الله ـ أنّه نقل هذا المعنى عن بعض المفسِّرين الّذين أخذوا قول إبراهيم ـ عليه السّلام ـ على ظاهره، وذهبوا إلى أنّ إبراهيم إنّما قال ذلك في طفولته، وأنّه كان حيران، واحتجّوا بقوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي ... (٧٧)} [الأنعام] قالوا: وهذا يدلّ على نوع من الحيرة. قلت: وهذا كلّه يؤكّد الحاجة إلى تحقيق كتب التّراث وتخليصها ممّا علق بها من الأقوال المغلوطة، والآراء المرجوحة.

ويدلك على شذوذ هذا التّفسير أنّ الله قال في حقّ إبراهيم ـ عليه السّلام ـ {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (٥١)} [الأنبياء] فالأنبياء معصومون عن الذّنوب قبل النُّبوَّة وبعدها، وقد بيّنا ذلك فيما تقدّم بما يغني عن إعادته.

وأيّ ذنب أعظم من قول إبراهيم إنْ أُخِذَ على ظاهره! والصّحيح ما عليه الجمهور من أنّ هذا القول كان في مقام المناظرة لقومه استدراجاً لهم ليقيم عليهم الحجّة، ومن باب مجاراة الخصم ليلزمه الحقّ، ويؤيّد هذا قوله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ... (٨٠)} [الأنعام] وقوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ... (٨٣)} [الأنعام].

والآيات في صدر القصّة تدلّ على أنّ إبراهيم لم يقل ذلك أيّام طفولته، وأنّه كان يوقن


(١) " سيد قطب: " التّصوير الفنّي " (ص ١٣٣).

<<  <   >  >>