وقوله تعالى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} هذه الآيات اختلف أهل التفسير في مرجع الضمير هنا، هل هو عائد إلى الله جل وعلا أم إلى ملائكته؟ والراجح عوده إلى الملائكة، وأن قوله:(ونحن) هنا للتعظيم وهو قرب العبيد، كقوله سبحانه وتعالى في الآيات التي أخبر سبحانه وتعالى فيها بإرجاع الضمير إليه والفاعل فيها غيره سبحانه وتعالى.
ويدل على هذا التوجيه أن القرب هنا مقيد، فالآية التي سبقتها هي قوله جل وعلا:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}[ق:١٦-١٧] أي: والعامل في الظرف (إذ) هو في الجملة: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} ، فإذا كان كذلك فإن هذا القرب قرب خاص، وهو قرب الملائكة الذين أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم أنهم يكتبون على العبد ويحصون عليه أعماله.
والقرب المذكور في كتابه سبحانه وتعالى وفي سنة رسوله ليس كالمعية، فالمعية معية عامة، كما جاء ذلك في قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ}[المجادلة:٧] ، وأما القرب فهو قرب خاص، وهو قرب في أحوال محددة وفي أوصاف محددة، فمن الأحوال التي يكون جل وعلا فيها قريباً لعبيده: قربه سبحانه وتعالى من أهل الموقف يوم عرفة، وأما قرب الأوصاف فكقربه من الداعي، كما في قوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[البقرة:١٨٦] فهو قريب من الداعي، وكقربه أيضاً من الساجد، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:(أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) وكقربه أيضاً من المستغفر، كما في قوله تعالى:{فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}[المائدة:٦١] ، فهذه الآيات والنصوص كلها تدل على أن القرب الذي أثبته الله لنفسه قرب خاص وليس قرباً عاماً.
وهذه الآية فيها أنه قرب عام، وهذا ليس له سبحانه وتعالى، وإنما لجنده من الملائكة الذين يحصون ويكتبون ما يحصل ويكون من الخلق، فلا تعارض هذه الآية دلالة النصوص الأخرى الدالة على علوه جل وعلا.
وكذلك قوله:{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ}[الأنعام:٣] على القول بوصل القراءة وأن الوقف فيها في آخرها ليس في قوله: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ) ؛ لأن بعض القراء يقف على قوله:(وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ) ثم يقول (وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) ، وبعضهم يقول: الوقف عند قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} وعلى كلا القراءتين لا إشكال، والثانية قد بين معنى كونه جل وعلا في الأرض، وأنه مع الخلق في الأرض بعلمه جل وعلا، وأما هو سبحانه وتعالى فهو العالي على خلقه البائن منهم.
وكذا في قوله:(مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) هذه آية المعية، وهي معية العلم، كما فسرها بذلك سلف الأمة.