[القيود التي يتميز بها مذهب السلف عن غيره]
ثم بعد أن ذكر المنهج إجمالاً، فصل فيه فقال رحمه الله: (ومذهب السلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل) ، وهذه قاعدة كبرى في هذا الباب، فأهل السنة والجماعة يصفون الله بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم في وصفهم هذا لا يكيفون، ولا يمثلون، ولا يؤولون، ولا يعطلون، فهذه أربعة قيود تخرج طرائق المبتدعين الذين ضلوا في باب أسماء الله عز وجل وصفاته.
قوله: (من غير تحريف) .
التحريف لغة: هو الإمالة والتغيير، وفي الاصطلاح: العدول باللفظ عن ظاهره المتبادر إلى معنى مرجوح يحتمله النص.
وأراد الجهمية تلطيف هذا السبيل فسموه تأويلاً؛ ليضلوا الناس وليموهوا باطلهم، فالتحريف المذكور هنا المقصود به التأويل عند المتكلمين، وهو: أنهم يصرفون ألفاظ الكتاب وألفاظ السنة عن ظاهرها المتبادر إلى معان مرجوحة يحتملها النص، لكنها ليست هي المعنى الظاهر من النصوص.
أما التعطيل فهو في اللغة: التخلية والتفريغ، وفي الاصطلاح: تخلية الله سبحانه وتعالى عما يجب له من الأسماء والصفات إما كلياً وإما جزئياً.
كلياً: كقول الجهمية الذين عطلوا الله عن الأسماء والصفات فلم يثبتوا له الأسماء ولم يثبتوا له الصفات، وجزئياً: كالمعتزلة والأشاعرة والماتردية وغيرهم، فهؤلاء تعطيلهم لصفات الله عز وجل تعطيل جزئي.
قوله: (ومن غير تكييف ولا تمثيل) التكييف في اللغة: هو التصوير.
وفي الاصطلاح: هو بيان حقيقة الشيء.
ويقول بعضهم: هو بيان كنه الشيء، والكنه هو الحقيقة، فأهل السنة والجماعة يثبتون الصفات دون طلب تصوير لها؛ لأن التصوير لصفات الله عز وجل فرع عن معرفة الذات أو فرع عن معرفة كيفية الذات، فلما كانت ذاته جل وعلا غير معروفة وغير مدركة الكنه والحقيقة، فكذلك الصفات، ولذلك القاعدة في رد طلب تكييف هؤلاء أن يقال لهم: الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فمن أراد أن يكيف الصفات فليكيف لنا -أولاً- الذات ولن يستطيع إلى ذلك سبيلا، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] .
قوله: (ولا تمثيل) التمثيل: هو التشبيه.
وهو في الاصطلاح: إلحاق الصفات الثابتة أو تنظير الصفات الثابتة لله عز وجل بصفات المخلوقين.
وهذا من أعظم الضلال، وهو قسيم الضلال السابق في التقييد الأول، فالتقييد الأول: من غير تحريف ولا تعطيل، وهذا رد على الفرقة الأولى من الفرقتين اللتين ضلتا في باب أسماء الله وصفاته، وهي فرقة المعطلة، وقوله: ومن غير تكييف ولا تمثيل، هذا رد على الممثلة؛ لأن مرد الضلال في باب أسماء الله وصفاته يرجع إلى هاتين الطائفتين، إما معطلة وإما ممثلة، فبهذه القيود تميز منهج أهل السنة والجماعة عن طريق التعطيل والتمثيل.
ثم قال: (ونعلم أن ما وصف الله به نفسه من ذلك) أي: من الأسماء والصفات (فهو حق ليس فيه لغز) يعني: ليس فيه تعمية وتضليل وإخفاء (ولا أحاجي) ، والأحاجي: هي إظهار الشيء على غير وجهه.
فليس في هذه الصفات التي وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله لغز ولا أحاجي، بل هي ظاهرة بينة لمن شرح الله صدره ووفقه لسلوك طريق السلف الصالح في هذا الباب.