[الكتاب والسنة هما المرجع والمتبع]
[قلت: وليعلم السائل أن الغرض -من هذا الجواب- ذكر ألفاظ بعض الأئمة الذين نقلوا مذهب السلف في هذا الباب، وليس كل من ذكرنا شيئاً من قوله -من المتكلمين وغيرهم- يقول بجميع ما نقوله في هذا الباب وغيره، ولكن الحق يقبل من كل من تكلم به، وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول في كلامه المشهور عنه الذي رواه أبو داود في سننه: (اقبلوا الحق من كل من جاء به وإن كان كافراً -أو قال: فاجراً- واحذروا زيغة الحكيم! قالوا: كيف نعلم أن الكافر يقول كلمة الحق؟ قال: إن على الحق نوراً -أو قال كلاماً هذا معناه-) .
فأما تقرير ذلك بالدليل وإماطة ما يعرض من الشبه، وتحقيق الأمر على وجه يخلص إلى القلب ما يبرد به من اليقين، ويقف على مواقف آراء العباد في هذه المهامه، فما تتسع له هذه الفتوى، فقد كتبت شيئاً من ذلك قبل هذا، وخاطبت ببعض ذلك بعض من يجالسنا، وربما أكتب -إن شاء الله- في ذلك ما يحصل به المقصود] .
على ما كتب في تقرير هذا الباب وبيانه، فكتبه رحمه الله من أفضل ما كتب في تقرير مسائل الاعتقاد جملة وتفصيلاً، فرحمه الله وجزاه عن الأمة خيراً، والكلام واضح فيما نقله عن أهل العلم، لاسيما المتكلمون الذين لا يوافقون أهل السنة والجماعة، ولا يوافقون ما قرره الشيخ في كل ما قاله وما ذهب إليه، إنما قد يكونون وافقوا في بعض الأمور وخالفوه في البعض الآخر، وهذا فيه فائدة أشار إليها الشيخ: وهي أن الحق يقبل من كل من تكلم به، والحق يعرف بموافقته للكتاب والسنة، وما ذكره معاذ رحمه الله ورضي عنه في قوله: (إن على الحق نوراً) ، فهذا النور الذي على الحق هو الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في وصف كتابه، فإنه وصف كتابه بأنه نور، والنور الذي في الحق هو من نور كتاب الله جل وعلا.
قال أجزل الله مثوبته ورحمه: [وجماع الأمر في ذلك: أن الكتاب والسنة يحصل منهما كمال الهدى والنور، لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه، وقصد اتباع الحق، وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسماء الله وآياته، ولا يحسب الحاسب أن شيئاً من ذلك يناقض بعضه بعضاً ألبتة] .
كلام الله جل وعلا لا تناقض فيه، وهذا مقتضى الإحكام الذي وصفه به سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:١] ، أي: صينت وحفظت وأتقنت عن أن يكون فيها شيء من الاضطراب والاختلاف.
ثم انظر إلى الشروط التي يحصل بها الاهتداء بالحق، وهذان سطران فيهما إجمال الأسباب التي يهتدي بها الإنسان إلى الصواب.
(جماع الأمر في ذلك: أن الكتاب والسنة يحصل منهما كمال الهدى والنور -بشرط:- لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه) ، فالواجب التدبر {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:٢٩] ، فالتدبر من أفضل ما يعين الإنسان على معرفة وفهم مقاصد الشريعة، والأصول الكلية في هذا الدين العظيم، فإن النية مطية كما قيل، وإنما الأعمال بالنيات، فإذا صدق العبد في نيته وفي طلبه للحق؛ فتح الله له الحق ويسره له، لكن إذا كانت نيته مشوبة، أو غير خالصة؛ فإنه لا يوفق لإصابة الصواب, قال: (وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه) والصواب: أن يحسن الإنسان النية والقصد.
قال: (وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسماء الله وآياته) أي: أعرض عن طريق المخالفين لمن فقه هذا الكتاب والسنة، والذين فقهوه هم السلف رحمهم الله، فإذا اجتمع في الطريق: تدبر وحسن قصد، وإعراض عن سبيل المخالفين للكتاب والسنة؛ وفق إلى خير كبير.
ثم أعطى قاعدة ليحل بها ما قد يرد على المؤمن من إشكالات في هذا الباب -في باب الأسماء والصفات وفي غيره-: (أن كلام الله جل وعلا لا يضطرب ولا يختلف) ، فإذا حصل اضطراب أو اختلاف فليتهم الإنسان نفسه ورأيه، وإلا فكلام الله لا اضطراب فيه ولا اختلاف، ولذلك قال الله جل وعلا: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:٨٢] فالله سبحانه وتعالى دعا الخلق إلى تدبر هذا الكتاب.
ثم أخبر بأن الكتاب لا اختلاف فيه؛ لأنه منه، وهذا يشير إلى أن الاختلاف الذي قد ينقدح في ذهن أحد أو يظنه ظان، إنما أتي وأصيب به من قبل عدم تدبره ونظره {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} ، لكن لما كان من عند الله فلا اختلاف فيه, والسبيل إلى الوقوف على أنه لا اختلاف فيه أن يتدبر الإنسان كلام الله سبحانه وتعالى، ولا يحسب الحاسب أن شيئاً منه يناقض بعضه ألبتة، وبهذا نقف عند هذا المقدار، ثم سيذكر الشيخ مثالاً لذلك لينفي الاضطراب والتناقض.
اللهم فقهنا في الدين وعلمنا التأويل.