[آيات المعية لا تنسخ آيات العلو ولا توجب أن الله في كل مكان]
قال رحمه الله: [واعلم أن هذه الآيات ليس معناها أن الله أراد الكون بذاته فيكون في أسفل الأشياء، أو ينتقل فيها لانتقالها، ويتبعض فيها على أقدارها، ويزول عنها عند فنائها جل وعز عن ذلك] فمقتضى كونه جل وعلا في كل مكان أن يكون متبعضاً، وأن ينتقل فيها بانتقالها، ويتبعض فيها على أقدارها، ويزول عنها عند فناءها.
وهذا من لوازم القول بأنه سبحانه وتعالى في كل مكان، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، ولذلك اشتد نكير أئمة السلف على من قال: إن الله جل وعلا في كل مكان، وجعلوه من الأقوال الكفرية البينة؛ لتكذيبه ما في القرآن وما في السنة، ولما يلزم عليه من اللوازم الباطلة.
قال رحمه الله: [وقد نزع بذلك بعض أهل الضلال، فزعموا أن الله تعالى في كل مكان بنفسه كائناً كما هو على العرش، لا فرقان بين ذلك، ثم أحالوا في النفي بعد تثبيت ما يجوز عليه في قولهم ما نفوه؛ لأن كل من يثبت شيئاً في المعنى ثم نفاه بالقول لم يغن عنه نفيه بلسانه، واحتجوا بهذه الآيات أن الله تعالى في كل شيء بنفسه كائناً، ثم نفوا معنى ما أثبتوه فقالوا: لا كالشيء في الشيء] .
أي: أنهم يقولون: إن الله في كل مكان، ثم يقولون: هو في كل مكان لا كالشيء في الشيء؛ حتى يتخلصوا من أن تحله الحوادث أو أن يحل الحوادث، ولذلك لما تناقضوا في قولهم كان تناقضهم دليلاً على فساد قولهم.
قال المؤلف رحمه الله: [قال: أبو عبد الله لنا قوله: (حَتَّى نَعْلَمَ) وقوله: (فَسَيَرَى اللَّهُ) وقوله: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} إنما معناه حتى يكون الموجود فيعلمه موجوداً، ويسمعه مسموعاً ويبصره مبصراً، لا على استحداث علم ولا سمع ولا بصر] هذا معناه: لا على استحداث علم ولا سمع ولا بصر.
قال المؤلف رحمه الله: [وأما قوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا} [الإسراء:١٦] إذا جاء وقت كون المراد فيه.
وأن قوله: (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) ، (أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) ، (إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) فهذا وغيره مثل قوله: (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) ، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) هذا منقطع يوجب أنه فوق العرش، فوق الأشياء كلها، منزه عن الدخول في خلقه لا يخفى عليه منهم خافية؛ لأنه أبان في هذه الآيات أنه أراد أنه بنفسه فوق عباده؛ لأنه قال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ} [الملك:١٦] يعني: فوق العرش، والعرش على السماء؛ لأن من قد كان فوق كل شيء على السماء في السماء] .
يريد أن يبين أن (في) في قوله: (أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) بمعنى (على) .
قال رحمه الله: [وقد قال مثل ذلك في قوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة:٢] يعني: على الأرض؛ لا يريد الدخول في جوفها، وكذلك قوله: {يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة:٢٦] يعني: على الأرض، لا يريد الدخول في جوفها، وكذلك قوله: {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:٧١] يعني: فوقها عليها.
وقال: (أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) ثم فصل فقال: (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ) ولم يصل، فلم يكن لذلك معنى -إذا فصل قوله: (مَنْ فِي السَّمَاءِ) ثم استأنف التخويف بالخسف- إلا أنه على عرشه فوق السماء] لو كان في الأرض كما هو في السماء على قولهم: إنه في كل مكان لكان مخسوفاً به، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
هذا معنى قوله: (أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) ثم فصل فقال: (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ) فذكر جل وعلا علوه ثم ذكر تهديده، وهو خسفه سبحانه وتعالى لمن خالف أمره.
ثم قال رحمه الله: [وقال تعالى: (يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) وقال: (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) فبين عروج الأمر وعروج الملائكة، ثم وصف وقت صعودها بالارتفاع صاعدة إليه فقال: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:٤] فقال: صعودها إليه، وفصله من قوله ((إليه)) كقول القائل: أصعد إليّ فلان في ليلة أو يوم، وذلك أنه في العلو، وأن صعودك إليه في يوم، فإذا صعدوا إلى العرش فقد صعدوا إلى الله عز وجل وإن كانوا لم يروه، ولم يساووه في الارتفاع في علوه، فإنهم صعدوا من الأرض وعرجوا بالأمر إلى العلو، قال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} ولم يقل: عنده] .
لو كان سبحانه في غير العلو لما احتاجت الملائكة إلى الصعود، ولا الأعمال إلى صعود، ولا أن يقول جل وعلا: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} إذا كان في كل مكان.