[ألزام الملاحدة لمنكري الصفات بإنكار المعاد]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد: فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [لكن أولئك الملاحدة ألزموهم في النصوص -نصوص المعاد- نظير ما ادعوه في نصوص الصفات، فقالوا لهم: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسول جاء بمعاد الأبدان، وقد علمنا فساد الشبهة المانعة منه، وأهل السنة يقولون لهؤلاء: ونحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءت بإثبات الصفات، ونصوص الصفات في الكتب الإلهية أكثر وأعظم من نصوص المعاد، ويقولون لهم: معلوم أن مشركي العرب وغيرهم كانوا ينكرون المعاد، وقد أنكروه على الرسول وناظروه عليه؛ بخلاف الصفات فإنه لم تكن العرب تنكرها، فعلم أن إقرار العقول بالصفات أعظم من إقرارها بالمعاد، وأن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات، فكيف يجوز مع هذا أن يكون ما أخبر به من الصفات ليس كما أخبر به، وما أخبر به من المعاد هو على ما أخبر به؟] .
بعد أن فرغ الشيخ رحمه الله من ذكر الطائفتين، وبين أن أهل التأويل لم يأتوا بما يردوا به على أهل التخييل في ضلالهم، وإنما شاركوهم في بعض الضلال الذي سلط عليهم أهل التخييل فألزموهم إلزامات باطلة، فقال الشيخ رحمه الله: (لكن أولئك الملاحدة ألزموهم في النصوص -نصوص المعاد- نظير ما ادعوه في نصوص الصفات) أي: من التأويل، فلما أول أهل التأويل نصوص الصفات ألزمهم أولئك في نصوص المعاد ما فعلوه في نصوص الصفات.
وبين رد أهل التأويل على هذا الإلزام فقال: (فقالوا لهم: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسول جاء بمعاد الأبدان، وقد علمنا فساد الشبهة المانعة منه، وأهل السنة يقولون لهؤلاء: ونحن نعلم بالاضطرار أن السنة جاءت بإثبات الصفات) فإذا كانت السنة قد جاءت بإثبات الصفات، وجاءت بإثبات المعاد، وتبين لنا ولكم يا أهل التأويل فساد الشبهة التي جعلت أهل التخييل يؤولون نصوص المعاد، فكذلك الأمر في نصوص الصفات، فكما أن الشبهة التي اعتمدها أهل التخييل في تأويل نصوص المعاد باطلة، فكذلك الشبهة التي اعتمدتموها في تأويل نصوص الصفات.
ثم أضاف أمراً آخر يبين أن الذين أولوا في الصفات وقعوا في خطأ أكبر من أولئك الذين أولوا في نصوص المعاد، من حيث إن نصوص المعاد تحتمل التأويل أكثر من نصوص الصفات، وبيان ذلك في قوله: (ونصوص الصفات في الكتب الإلهية أكثر وأعظم من نصوص المعاد) فالكتب الإلهية ذكرت نصوص الصفات أكثر وأعظم من ذكرها لنصوص المعاد، ومع ذلك لم يؤول أهل الكتاب في نصوص الصفات، فإذا كانت هذه النصوص مع كثرتها ومجيء الرسل بها في جميع شرائعهم لم تقبل التأويل؛ فكذلك هي في هذه الشريعة لا تقبل التأويل، وتأويل من أول في نصوص المعاد أقرب من تأويل من أول في نصوص الصفات، أي: أقرب إلى الاحتمال، وإن كان الجميع باطلاً، لكن نحن نلزمهم على قاعدتهم في التأويل.
ثم بين وجهاً آخر يبطل تأويل هؤلاء لنصوص الصفات فقال: (معلوم أن مشركي العرب وغيرهم كانوا ينكرون المعاد، وقد أنكروه على الرسول، وناظروه عليه، بخلاف الصفات فإنه لم تكن العرب تنكرها) مع أنهم طلبوا إبطال دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وإبطال رسالته، وطلبوا تكذيبه صلى الله عليه وسلم بكل طريق ومن كل سبيل، ومع ذلك لم يؤولوا نصوص الصفات، وإنما تسلط تكذيبهم وإنكارهم على نصوص المعاد.
قال: (فعلم أن إقرار العقول بالصفات أعظم من إقرارها بالمعاد، وأن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات) تبين من هذين الوجهين أن إقرار العقول بالصفات أعظم من إقرارها بالمعاد، وأن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات، وما هما الوجهان؟ الوجه الأول: أن الشرائع جاءت بنصوص الصفات أكثر وأعظم من مجيئها بنصوص المعاد.
الوجه الثاني: أن مشركي العرب وغيرهم لم ينكروا نصوص الصفات كما أنكروا نصوص المعاد.
ثم قال: (فكيف يجوز مع هذا أن يكون ما أخبر به من الصفات ليس كما أخبر به؟) يعني: ليس على الوجه الذي أخبر به، وإنما يؤول أو يعطل، أو يقال كما في البدعة الثالثة: إنه لا معنى له.
(وما أخبر به في المعاد هو على ما أخبر به) فالواجب على هؤلاء أن يلتزموا في الصفات ما التزموه في نصوص المعاد، حتى تطرد قاعدتهم وتسلم من التناقض.