[لا تعارض بين معية الله وعلوه]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه، وأصلي وأسلم على أشرف الخلق أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ولا يحسب الحاسب أن شيئاً من ذلك يناقض بعضه بعضاً ألبتة، مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:٤] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذ قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه) ، ونحو ذلك؛ فإن هذا غلط؛ وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة، كما جمع الله بينهما في قوله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:٤] ، فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: (والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه) .
وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة، من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا، ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك، فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة] .
ذكر المؤلف رحمه الله بعد أن قال: (ولا يحسب الحاسب أن شيئاً من ذلك يناقض بعضه البعض ألبتة) مثالاً لما قد يتوهم من التناقض فيما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه، فقال رحمه الله: (مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه) ونحو ذلك) ، يعني: من الأحاديث أو النصوص سواء من الكتاب أو السنة التي تدل على معيته سبحانه وتعالى، قال: (فإن هذا غلط) أي: اعتبار نصوص المعية مخالفة لنصوص العلو والاستواء (وذلك أن الله معنا حقيقة) ، أي: كما أخبر به عن نفسه سبحانه وتعالى، (لا نحتاج في ذلك إلى تأويل) أي: لا نحتاج في ذلك إلى تحريف، بل نثبته كما أثبته سبحانه وتعالى لنفسه في كتابه.
(وهو فوق العرش حقيقة) أي: كما أخبر في كتابه، وكما أخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم (كما جمع الله بينهما في قوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:٤] ، فجمع بين هذين المعنيين وبين هاتين الصفتين في آية واحدة, فدل ذلك على أنه لا تعارض بينهما ولا تناقض، بل إثبات علو الله سبحانه وتعالى على عرشه لا يناقض أنه سبحانه وتعالى مع خلقه حقيقة.
ثم قال: (فأخبر أنه فوق العرش) يعني: في هذه الآية، (وهو معنا أينما كنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال) وهو حديث مشهور رواه الترمذي بسند لا بأس به وفيه: (والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه) .
وأضيف الحديث للأوعال؛ لأن فيه ذكر الأوعال, والأوعال: جمع وعل، وهو في اللغة تيس الجبل، ويطلق أيضاً في اللغة على الأشراف والكبراء من كل شيء، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تعلو السفول وتهلك الوعول، قيل: وما السفول يا رسول الله؟ قال -ما معناه- أنهم أردأ القوم, قيل: وما الوعول يا رسول الله؟ قال: أهل البيوت الصالحة) أي: الأشراف من أهل الخير والصلاح.
فالوعول: هم الأشراف وهم من أشرف خلق الله سبحانه وتعالى, كما ثبت أنهم ثمانية يحملون العرش في حديث الأوعال.
فالله جل وعلا على عرشه، وهو فوقه سبحانه وتعالى، ومع ذلك فهو يعلم سبحانه وتعالى ما أنتم عليه، وهذا تفصيل وبيان لمعنى المعية المذكورة في الآية، وأنها ليست المعية التي تقتضي المخالطة والممازجة، بل هي معية العلم كما فسرها بذلك المفسرون من أهل السنة والجماعة.
قال: (وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة، من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال) أو عن أي جهة، فالذي تفيده كلمة (مع) هو المقارنة والمصاحبة، لكن لا يستلزم ذلك وجوب المماسة أو المحاذاة من أي جهة من يمين أو شمال أو فوق أو تحت، (فإذا قيدت بمعنى من المعاني؛ دلت على المقارنة في ذلك المعنى) ولم تفد المحاذاة والمماسة.
يقول في ضرب الأمثال على صحة هذه القاعدة وأن (مع) في اللغة تدل على المقارنة المطلقة لا على المحاذاة والمماسة: (مازلنا نسير والقمر معنا) ، ومعلوم أن القمر ليس مخالطاً ولا محاذياً ولا مماساً لمن قالوا بهذا القول، قال: (أو النجم معنا، ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك، فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة) ، فلا تعارض بين معنى العلو ومعنى المعية.
ولما كان هناك من يفهم من ذلك المعارضة بين هاتين الصفتين؛ جرى كثير من أهل العلم على ذكر الصفتين مقترنتين، فإذا ذكر بحث العلو أو الاستواء ذكر معه بحث المعية؛ ليبين عدم التعارض بين هاتين الصفتين، كما جمع الله سبحانه وتعالى بينهما في آية الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .