[الواجب في باب الأسماء والصفات]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال رحمه الله تعالى: [والله يعلم أني بعد البحث التام، ومطالعة ما أمكن من كلام السلف ما رأيت كلام أحد منهم يدل -لا نصاً ولا ظاهراً ولا بالقرائن- على نفي الصفات الخبرية في نفس الأمر، بل الذي رأيته أن كثيراً من كلامهم يدل -إما نصاً وإما ظاهراً- على تقرير جنس هذه الصفات، ولا أنقل عن كل واحد منهم إثبات كل صفة، بل الذي رأيته أنهم يثبتون جنسها في الجملة، وما رأيت أحداً منهم نفاها، وإنما ينفون التشبيه، وينكرون على المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه، مع إنكارهم على من ينفي الصفات أيضاً، كقول نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهاً.
وكانوا إذا رءوا الرجل قد أغرق في نفي التشبيه من غير إثبات الصفات قالوا: هذا جهمي معطل، وهذا كثير جداً في كلامهم، فإن الجهمية والمعتزلة إلى اليوم يسمون من أثبت شيئاً من الصفات مشبهاً، كذباً منهم وافتراءً، حتى إن منهم من غلا ورمى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بذلك، حتى قال ثمامة بن الأشرس من رؤساء الجهمية: ثلاثة من الأنبياء مشبهة: موسى حيث قال: {إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ} [الأعراف:١٥٥] ، وعيسى حيث قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:١١٦] ومحمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: (ينزل ربنا) وحتى إن جل المعتزلة تدخل عامة الأئمة: مثل مالك وأصحابه، والثوري وأصحابه، والأوزاعي وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأحمد وأصحابه، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد وغيرهم في قسم المشبهة] .
هذا المقطع الذي سمعناه، فيه أن الشيخ رحمه الله لم يقف على من نفى الصفات الخبرية من السلف رحمهم الله، وذلك في جميع ما أثر وجاء عنهم، لا في نص كلامهم ولا ظاهره، ولا بالقرائن التي تحتف بالنصوص، فمذهب السلف رحمهم الله هو إثبات هذه الصفات لله سبحانه وتعالى، وهي الصفات الخبرية، كمذهبهم في الصفات الفعلية والذاتية، ونص على الصفات الخبرية؛ لأن كثيراً من المتكلمين يشغبون على أهل السنة والجماعة في إثباتها، ويسمونهم بما وسموهم به ووصفوهم به من التشبيه والتمثيل؛ لأنهم لم يعقلوا من تلك الصفات الخبرية كالوجه واليدين والعين والقدم والأصابع إلا ما عرفوه من المخلوق، فقالوا: إن إثباتها يقتضي التشبيه والتجسيم، ويقتضي التركيب، هذه شبهتهم الكبرى التي صرفتهم عن إثبات هذه النصوص، فلما اعتقدوا أن هذه النصوص تقتضي التجسيم والتركيب، وأنها تقتضي التشبيه أو التمثيل، نفوها وسموا من أثبتها مجسمة أو مشبهة أو حشوية، أو غير ذلك من الأسماء التي سموا بها أهل السنة والجماعة.
وأهل السنة والجماعة رحمهم الله كما أنهم أثبتوا الصفات على الوجه الذي يليق بالله سبحانه وتعالى، وكما أخبر سبحانه وتعالى في كتابه، وأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته، فإنهم أنكروا على الممثلة الذين قالوا بأن صفات الخالق كصفات المخلوق, أنكروا عليهم ذلك أشد الإنكار، فهم جمعوا في عقدهم الذي دانوا به رب العالمين في باب الأسماء والصفات بين الإثبات الموصوف بأنه من غير تعطيل ولا تأويل، ومن غير تكييف ولا تمثيل, فهم نفوا هاتين البدعتين، فهم رحمهم الله وسط بين الممثلة وبين المعطلة، ونقل عن نعيم بن حماد هذا القول: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، فكلا هذين السبيلين ضلال عن سواء السبيل، وأخذ بنصيب من البدعة في باب الأسماء والصفات، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهاً، بل تثبت على الوجه الذي وردت به من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، هذا الواجب في باب الأسماء والصفات.
ثم قال عنهم رحمهم الله: (وكانوا إذا رءوا الرجل قد أغرق في نفي التشبيه من غير إثبات الصفات، قالوا: هذا جهمي معطل) وهذا الوصف يصف به أهل السنة والجماعة جميع المتكلمة، فاسم الجهمية يطلقه السلف على كل من عطل في باب الأسماء والصفات، سواء كان تعطيله كلياً كالجهمية الذين ينفون الأسماء والصفات، أو كالمعتزلة الذين ينفون الصفات ويثبتون الأسماء, أو كالأشاعرة الذين يثبتون الأسماء وبعض الصفات، فقولهم: هذا جهمي معطل، أي: هذا متكلم ضل عن طريق السلف في باب الأسماء والصفات، فأول وحرف، ويقولون هذا كثيراً جداً في كلامهم، وذلك أن الجهمية كانوا يغلون في نفي التشبيه، ولكنهم لا يثبتون الصفات، فاستدل أهل السنة والجماعة على من سلك هذه الطريق أنه جهمي معطل.
قال: (فإن الجهمية والمعتزلة) ومقصوده بالجهمية هنا من نفى الأسماء والصفات؛ لأنه قرنهم بالمعتزلة، والمعتزلة الذين نفوا الصفات إلى اليوم يسمون من أثبت شيئاً من الصفات مشبهاً؛ كذباً منهم وافتراء (حتى إن منهم من غلا ورمى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بذلك -أي: بالتشبيه- حتى قال ثمامة بن الأشرس: ثلاثة من الأنبياء مشبهة) فإذا كان طريق الأنبياء هو التشبيه باعترافهم فلا طريق يوصل إلى مرضاة رب العالمين إلا الطريق الذي سلكه الرسل صلوات الله وسلامه عليهم؛ إذ أنهم الأدلاء على الله جل وعلا، فهم الذين دلوا الخلق على ربهم، وعرفوهم به سبحانه وتعالى.
ثم ذكر أن جل المعتزلة يعد أئمة الإسلام الكبار من المشبهة, فدل ذلك على أن المعتزلة يقرون بأن طريق السلف طريق الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وطريق أئمة الدين هو ما كان عليه السلف رحمهم الله من إثبات الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل.