[الباقلاني يثبت من الصفات أكثر مما تثبت الأشاعرة]
[وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المتكلم -وهو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري، ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده- قال في كتاب (الإبانة) تصنيفه: فإن قال قائل: فما الدليل على أن لله وجهاً ويداً؟ قيل له قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} [الرحمن:٢٧] ، وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:٧٥] ، فأثبت لنفسه وجهاً ويداً.
فإن قال: فلم أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة، إن كنتم لا تعقلون وجهاً ويداً إلا جارحة؟ قلنا: لا يجب هذا كما لا يجب إذا لم نعقل حياً عالماً قادراً إلا جسماً، أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله سبحانه وتعالى، وكما لا يجب في كل شيء كان قائماً بذاته أن يكون جوهراً؛ لأنا وإياكم لم نجد قائماً بنفسه في شاهدنا إلا كذلك، وكذلك الجواب لهم إن قالوا: يجب أن يكون علمه وحياته، وكلامه، وسمعه، وبصره، وسائر صفات ذاته عرضاً، واعتلوا بالوجود.
وقال: فإن قال: فهل تقولون إنه في كل مكان؟ قيل له: معاذ الله! بل مستوٍ على عرشه، كما أخبر في كتابه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] ، وقال الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:١٠] ، وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:١٦] .
قال: ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه والحشوش والمواضع التي يُرغب عن ذكرها، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض] .
(أن يرغب إليه) معناه: التوجه إليه، وأن يطلب ويدعى، فيسأل ويتوجه إلى الخلف وإلى الأمام وإلى السفل، ومعلوم أن فطر الناس إذا رغبت ودعت وسألت تتوجه إلى العلو.
قال رحمه الله: [وإلى خلفنا وإلى يميننا وإلى شمالنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله.
وقال أيضاً في هذا الكتاب: صفات ذاته التي لم يزل ولا يزال موصوفاً بها هي: الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة، والبقاء] .
هذه صفات المعاني (صفات الذات) .
[والوجه، والعينان، واليدان، والغضب، والرضا] .
وهذه صفات فعلية، وإنما جعلها في صفات الذات لأن الأشاعرة لا يقرون بالصفات الفعلية، ولا يثبتونها، ولذلك ذكر هذه الصفات الفعلية في صفات الذات.
[وقال في كتاب (التمهيد) كلاماً أكثر من هذا -لكن ليست النسخة حاضرة عندي- وكلامه وكلام غيره من المتكلمين في مثل هذا الباب كثير لمن يطلبه] .
وهذا من الشيخ رحمه الله يدل على أمانته في النقل، وقد وجد هذا الكتاب وحققه بعض أهل الزيغ والضلال، ولم يجد فيه هذا المقطع من الكلام الذي نقله شيخ الإسلام ونقله كذلك ابن القيم عن الباقلاني، وهو من أئمة الأشاعرة، بل هو المجدد الثاني الذي سعى في تقعيد مذهب الأشعري ونشره بين الناس، فقالوا: إن ما نسبه إليه شيخ الإسلام من هذا الكلام ليس صحيحاً وليس موجوداً في كتاب (التمهيد) المذكور، وأبطل الله كيدهم وكذبهم حيث إن الكتاب حققه مستشرق من نسخة أخرى، ووجد فيه ما نقله الشيخ بنصه، وهذا من توفيق الله ونصرته لأهل الحق.