ذكر المؤلف رحمه الله فيما نقله عن أبي الحسن أن المعتزلة والجهمية والحرورية خالفوا فيما تقدم من ذكر الاستواء, والاستواء -كما ذكرنا- صفة فعلية، أثبتها أهل السنة والجماعة لله سبحانه وتعالى على الوجه الذي يليق به، وقد دلت على ذلك الأدلة من الكتاب والسنة، بل إن إثبات استواء الله عز وجل من المتواتر الذي جاءت به النصوص.
واستواء الله عز وجل على العرش ذكرنا أن أهل السنة والجماعة أطلقوا في تفسيره أربع كلمات، وهذه المعاني الأربعة هي: العلو، والصعود, والاستقرار, والارتفاع، هذه الكلمات هي التي وردت عن السلف في تفسير معنى الاستواء، وهي تفسير وليست تأويلاً، أي: وليست تحريفاً للكلم عن مواضعه كما سلك أرباب الكلام.
وقد بين الشيخ فيما نقله عن أبي الحسن تأويلات المتكلمين لهذه الصفة فقال:(وقد قال القائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية -والحرورية: فرقة من فرق الخوارج- إن معنى قوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) أنه استولى وقهر وملك) أي: أن استوى بمعنى استولى وقهر وملك، وهذا تحريف للكلم عن مواضعه؛ لأن استوى جاء تفسيرها في كلام السلف بالمعاني المتقدمة، وأما تأويلها بأنه استولى وقهر وملك فهذا باطل لا يصح من حيث اللغة، ولا من حيث المعنى.
ومن تأويلاتهم أيضاً: أن الاستواء بمعنى الإقبال، فقالوا: استوى على العرش بمعنى: أقبل عليه أو أقبل إليه، وكل هذه تأويلات باطلة لم ترد عن السلف، وهي مضادة لما فهم من كلام الله سبحانه وتعالى.
قال:(وإن الله عز وجل في كل مكان) وهذا أمر لا يتعلق بالاستواء فحسب، بل يتعلق أيضاً بالعلو، فإن الاستواء دليل خاص من أدلة علو الله سبحانه وتعالى على خلقه، ولذلك استدل به أهل السنة على علو الله سبحانه وتعالى.
وأما أدلة العلو فهي كثيرة، وقد اجتمعت عليه جميع الدلالات من الكتاب والسنة والإجماع والفطرة والعقل، والعلو الذي يثبته أهل السنة والجماعة صفة لله سبحانه وتعالى هو علو الذات وعلو القهر وعلو القدر، فعلو القهر وعلو القدر لا خلاف فيهما بين أهل القبلة، فكلهم يثبت علو القهر وعلو القدر، لكنهم اختلفوا في علو الذات، فأثبت أهل السنة والجماعة علو الله سبحانه وتعالى بذاته على خلقه، وخالف في ذلك أهل الكلام، فقالوا: إنه سبحانه ليس عالياً على خلقه، وأولوا النصوص التي فيها إثبات علوه بأنها علو القهر أو علو القدر؛ ليفروا من إثبات علو الذات.
وهؤلاء الذين نفوا العلو اختلفوا بعد ذلك في: هل الله سبحانه وتعالى في كل مكان أو أنه ليس في مكان؟ فمنهم من قال: إنه في كل مكان، وهذا قول المعتزلة والأشاعرة، وقال آخرون: إنه ليس في مكان، وهو مقتضى قول الجهمية الذين يقولون: لا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا داخل العالم ولا خارج العالم، وما إلى ذلك من تفصيلاتهم الباطلة.