[استواء الله على العرش وكونه في السماء لا يفهم منه الحصر والاحتواء]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في سياق كلامه على المعية: [ثم من توهم أن كون الله في السماء بمعنى أن السماء تحيط به وتحويه فهو كاذب إن نقله عن غيره، وضال إن اعتقده في ربه، وما سمعنا أحداً يفهم هذا من اللفظ، ولا رأينا أحداً نقله عن واحد، ولو سئل سائر المسلمين: هل تفهمون من قول الله ورسوله (إن الله في السماء) أن السماء تحويه، لبادر كل أحد منهم إلى أن يقول: هذا شيء لعله لم يخطر ببالنا! وإذا كان الأمر هكذا، فمن التكلف أن يجعل ظاهر اللفظ شيئاً محالاً لا يفهمه الناس منه، ثم يريد أن يتأوله، بل عند المسلمين أن الله في السماء وهو على العرش واحد، إذ السماء إنما يراد به العلو، فالمعنى أن الله في العلو لا في السُفل، وقد علم المسلمون أن كرسيه سبحانه وتعالى وسع السماوات والأرض] .
المؤلف رحمه الله يجيب على ما قد أثاره بعض المتكلمين، أو شكك فيه بعض المشككين، من أن السماء تحويه أو تحيط به إذا قيل بالاستواء، أو أنه تعالى في السماء، فبين أن المقصود أنه سبحانه وتعالى في العلو، فقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦] أي: أأمنتم من في العلو؛ لأن السماء اسم جنس لما علا، ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (إذ السماء إنما يراد به العلو) وليس المراد ما توهمه المتوهمون من أنه سبحانه وتعالى تحيط به السماء، أو ما إلى ذلك من الظنون الكاذبة والأقوال الباطلة.
ثم إن هذا الظاهر الذي يزعمونه في قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} لا يأتي إلا على آراء هؤلاء المشككين، أما أهل اللسان وأهل الإسلام فإنهم لا يقولون بهذا، ولا يوردون هذا على ظنونهم ولا على آرائهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى العلي الكبير، فلا يحيط به شيء، بل هو جل وعلا محيط بكل شيء.
قال: [وقد علم المسلمون أن كرسيه سبحانه وتعالى وسع السماوات والأرض، وأن الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وأن العرش خلق من مخلوقات الله لا نسبة له إلى قدرة الله وعظمته، فكيف يتوهم بعد هذا أن خلقاً يحصره ويحويه؟] .
مخلوقاته جل وعلا تحيط بالسماوات والأرض كما قال في الكرسي: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:٢٥٥] ، وكرسيه إلى عرشه كحلقة ملقاة بأرض فلاة، فكيف به جل وعلا وهو الكبير المتعال؟ فتعالى الله عن هذه الظنون التي ظنها هؤلاء علواً كبيراً، فإنه أبطل هذا المعنى بأنه -أولاً- لا يرد على أذهان أهل الإسلام، بل لو سألت سائر أهل الإسلام لما ورد على أذهانهم هذا.
ثانياً: أن اللغة لا تدل عليه، إذ أنه في اللغة يراد بالسماء العلو.
ثالثاً: أنه إذا كان بعض مخلوقاته وسع السماوات والأرض فكيف به سبحانه وتعالى.
[وقد قال سبحانه: {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:٧١] ، وقال: {فَسِيرُوا فِي الأرْضِ} [آل عمران:١٣٧] بمعنى (على) ونحو ذلك، وهو كلام عربي حقيقة لا مجازاًَ، وهذا يعلمه من عرف حقائق معاني الحروف، وأنها متواطئة في الغالب لا مشتركة] .
هذا هو المعنى الثاني الذي يمكن أن تفسر به الآية: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} أي: أأمنتم من على السماء، وليس المراد أن السماء تحويه كقوله: {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} ومعلوم أنه لم يشق النخل ويضعهم فيها، وإنما علقهم عليها، وهكذا قوله: {فَسِيرُوا فِي الأرْضِ} والمراد سيروا عليها لا بداخلها.