ثم ذكر الشيخ رحمه الله أن التأويل في كلام السلف يراد به ثلاثة معان: الأول: ما ذكره بقوله: (فالتأويل في اصطلاح كثير من المتأخرين هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك) ، هذا التأويل هو الذي استعمله أكثر المتأخرين، والأصل في الألفاظ أن تجرى على ظاهرها، وأن تؤخذ دلالاتها من ألفاظها، والأصل إعمال اللفظ على ظاهره والمتبادر منه، لكن إذا جاء دليل يدل على أن ظاهر اللفظ غير مراد، ففي هذه الحالة يصرف اللفظ عن ظاهره المتبادر إلى المعنى المرجوح الذي يحتمله اللفظ لهذه القرينة أو لهذا الدليل الصارف، لكن الأصل في اللفظ أن يعمل على ظاهره، وألا يصرف عن ظاهره إلى معنى مرجوح يحتمله النص إلا بدليل.
يقول:(فلا يكون معنى اللفظ الموافق لدلالة ظاهره تأويلاً على اصطلاح هؤلاء) يعني: المعنى المفهوم من ظاهر اللفظ لا يكون تأويلاً، فإذا نظرت إلى قوله تعالى:{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}[النمل:٦٥] ، فظاهر هذه الآية يدل على أنه لا يعلم الغيب إلا الله تعالى، وهذا تفسير وليس تأويلاً على كلام هؤلاء؛ لأنهم جعلوا التأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره، أي: عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل، فلا يكون على قول هؤلاء تفسير القرآن تأويلاً؛ لأن التأويل عندهم هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر أو الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به.
(وظنوا أن مراد الله تعالى بلفظ التأويل ذلك) أي: في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} بمعنى: أنهم هم الذين يعلمون أن المراد باللفظ غير ظاهره الراجح، وأن المراد ظاهره المرجوح لدليل يقترن به، ولا يفهم هذه الأدلة ولا يعرفها إلا الراسخون في العلم.
يعني: يظن أهل التجهيل أن مراد الله تعالى في قوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} أي: لا يعلم معناه المرجوح إلا الله سبحانه وتعالى، وعلى ذلك يقفون عند قوله:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} ؛ لأنهم يقولون: لا يعلم تأويل كلام الله إلا هو سبحانه وتعالى ولا يعلمه أحد.
قال:(وأن للنصوص تأويلاً يخالف مدلولها لا يعلمه إلا الله، ولا يعلمه المتأولون) فنفوا العلم عن المتأولين، وأثبتوه لله سبحانه وتعالى، وهذا على قراءة الوقف.
ثم قال:(ثم كثير من هؤلاء يقولون: تجرى على ظاهرها، فظاهرها مراد مع قولهم: إن لها تأويلاً بهذا المعنى لا يعلمه إلا الله) أي أنهم يقولون: لها معنى وتجرى على ظاهرها، لكن لا يعلم معناها إلا الله، فهؤلاء وقعوا في التناقض، حيث يقولون: إن لها معنى وهو غير معلوم، فعندهم أنه لا يدرى ولا يعلم معنى كلام الله سبحانه وتعالى، فهؤلاء وقعوا في التناقض حيث أثبتوا لها معنى ونفوا علم هذا المعنى، مع أن الكلام كلام عربي مبين، ومقتضى كونه مبيناً أن يفهمه كل من تكلم بهذا اللسان؛ ولذلك قال:(وهذا تناقض وقع فيه كثير من هؤلاء المنتسبين إلى السنة من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم) ومراده بهذا الكلام أهل التفويض وهم أهل التجهيل.
الآن عرفنا المعنى الأول الذي يقصد به التأويل، وهو صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى معناه المرجوح لدليل يقترن به.