[الأشاعرة وتأويل الصفات بين القديم والحديث]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول: شيخ الإسلام رحمه الله تعالى رحمة واسعة: [وفي عصره الحافظ أبو بكر البيهقي مع توليه للمتكلمين من أصحاب أبي الحسن الأشعري وذبه عنهم، قال في كتابه (الأسماء والصفات) : باب ما جاء في إثبات اليدين صفتين -لا من حيث الجارحة- لورود خبر الصادق به، قال الله تعالى: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:٧٥] ، وقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:٦٤] ، وذكر الأحاديث الصحاح في هذا الباب مثل قوله في غير حديث في حديث الشفاعة: (يا آدم! أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه) ومثل قوله في الحديث المتفق عليه: (أنت موسى، اصطفاك الله بكلامه، وخط لك الألواح بيده) وفي لفظ: (وكتب لك التوراة بيده) .
ومثل ما في صحيح مسلم: (أنه سبحانه غرس كرامة أوليائه في جنة عدن بيده) ، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: (تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده، كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر؛ نزلاً لأهل الجنة) ، وذكر أحاديث مثل قوله: (بيدي الأمر) ، (والخير في يديك) ، (والذي نفس محمد بيده) (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) ، وقوله: (المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين) ، وقوله: (يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك! أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك! أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟) ، وقوله: (يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القسط، يخفض ويرفع) ، وكل هذه الأحاديث في الصحاح.
وذكر أيضاً قوله: (إن الله لما خلق آدم قال له ويداه مقبوضتان: اختر أيهما شئت.
قال: اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة) ، وحديث: (إن الله لما خلق آدم مسح على ظهره بيده) ، إلى أحاديث أخر ذكرها من هذا النوع.
ثم قال البيهقي: أما المتقدمون من هذه الأمة فإنهم لم يفسروا ما كتبنا من الآيات والأخبار في هذا الباب، وكذلك قال في الاستواء على العرش وسائر الصفات الخبرية، مع أنه يحكي قول بعض المتأخرين] .
نقل الشيخ رحمه الله هذا الكلام عن أبي بكر البيهقي -بعد أن فرغ من النقل عن أئمة أهل السنة والجماعة على اختلاف عصورهم- وهو من الأشاعرة رحمه الله وغفر له، وأراد الشيخ بهذا أن يثبت أن إثبات الصفات يلزم من ذهب إلى التأويل وقال به، فإنه مضطر إلى إثبات بعض الصفات، ومن ذلك ما نقل الشيخ رحمه الله عن أبي بكر البيهقي في إثبات صفة اليدين، وهي من الصفات الخبرية التي وصف الله سبحانه وتعالى بها نفسه، وقد أولها كثير من المتكلمين، إلا أن الأشاعرة -وهم من جملة المتكلمين- سلكوا في هذه الصفات طريقين: فالمتقدمون منهم أثبت هذه الصفات الخبرية التي جاءت في القرآن: كاليدين والعين والوجه.
ثم هؤلاء المتقدمون انقسموا إلى فريقين: فمنهم من أثبت معناها، ومنهم من فوَّضها.
وأما أصحاب الطريق الثاني، وهو طريق المتأخرين من الأشاعرة -وهو طريق التأويل-: فأولوا هذه الصفات ولم يثبتوها لله سبحانه وتعالى؛ فأولوا اليدين بالنعمة، وأولوا العين بالرعاية والعناية، وأولوا الوجه بأنه الذات أو الجهة، وما أشبه ذلك من التأويلات التي ذكروها في كتبهم.
والبيهقي سار في هذه الصفات على طريقة المتقدمين من الأشاعرة، إلا أنه يظهر في آخر النقل عنه أنه فوض معناها، حيث قال: (وأما المتقدمون من هذه الأمة فإنهم لم يفسروا ما كتبنا من الآيات والأخبار في هذا الباب) ، فكأنه أثبتها دون التعرض لمعناها؛ لكونه قد نقل عن المتقدمين عدم تفسيرها.
والناظر في كلام أهل السنة من المتقدمين والمتأخرين: يعلم أنهم رحمهم الله قد فسروا هذه الآيات، وأنهم تكلموا عليها كسائر الآيات التي في كتاب الله سبحانه وتعالى، إلا أنهم أعرضوا عن ذكر الكيفية على القاعدة التي سلكوها في هذا الباب من عدم البحث في الكيفية، وأن الكيفية لا يمكن الوقوف عليها؛ لأن الكلام عن الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما لا تعلم كيفية ذاته جل وعلا؛ فكذا لا تعلم كيفية صفاته.