[ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، ومن اشتبه عليه ذلك أو غيره فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا قام يصلي من الليل قال: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) وفي رواية لـ أبي داود: أنه كان يكبر في صلاته ثم يقول ذلك.
فإذا افتقر العبد إلى الله ودعاه، وأدمن النظر في كلام الله وكلام رسوله وكلام الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين؛ انفتح له طريق الهدى، ثم إن كان قد خبر نهايات إقدام المتفلسفة والمتكلمين في هذا الباب، وعرف أن غالب ما يزعمونه برهاناً هو شبهة، ورأى أن غالب ما يعتمدونه يئول إلى دعوى لا حقيقة لها، أو شبهة مركبة من قياس فاسد، أو قضية كلية لا تصح إلا جزئية، أو دعوى إجماع لا حقيقة لها، أو التمسك في المذهب والدليل بالألفاظ المشتركة.
ثم إن ذلك إذا ركب بألفاظ كثيرة طويلة غريبة عمن لم يعرف اصطلاحهم، أوهمت الغر ما يوهمه السراب للعطشان؛ ازداد إيماناً وعلماً بما جاء به الكتاب والسنة، فإن الضد يظهر حسنه الضد، وكل من كان بالباطل أعلم كان للحق أشد تعظيماً، وبقدره أعرف إذا هدي إليه] .
هذا الكلام مفيد جداً في إصابة الصواب في جميع أبواب العلم، وفي جميع أنواع الخير، وإنما يخطىء المرء الخير والصواب في العلم بسبب اختلال أحد الأمور التي ذكرها الشيخ رحمه الله, بعد أن ذكر تفاوت الناس في دلالات النصوص على صفات الله سبحانه وتعالى بين أن تكون دالة دلالة لا تحتمل النقيض، وبين أن تكون دالة دلالة تحتمل النقيض.
قال:(ومن اشتبه عليه ذلك أو غيره فليدع بما رواه مسلم) وذكر الدعاء العظيم الذي فيه افتقار العبد لله جل وعلا أن يبلغه الرشاد، وأن يدله إلى الصواب، وبعد أن ذكر الشيخ رحمه الله هذا الحديث قال:(فإذا افتقر العبد إلى الله ودعاه وأدمن النظر -أي: أدام النظر- في كلام الله وكلام رسوله وكلام الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين؛ انفتح له طريق الهدى) فهذه موجبات الهداية وأسبابها، وهذه مقتضياتها، فمن أخذ بها فقد انفتح له طريق الهدى: الدعاء، والافتقار الذي فيه شدة اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، ومطالعة الكتاب والسنة، وإدامة النظر فيهما، وفي كلام السلف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين الذين تلقوا عنهم.
ثم إنَّ مما يثبته ويدله على الصواب -بعدما سبق- أن يعلم نهايات إقدام المتفلسفة والمتكلمين في هذا الباب من -تناقض واضطراب وحيرة وضلال كما تقدم ذلك في النقول عنهم (وعرف [أن] غالب ما يزعمونه برهاناً هو شبهة) إذا طالع كلامهم وأدلتهم وحججهم؛ رأى أنها شبه، (ورأى أن غالب ما يعتمدونه يئول إلى دعوى لا حقيقة لها، أو شبهة مركبة من قياس فاسد، أو قضية كلية لا تصلح إلا جزئية) هذه عمدتهم فيما ذهبوا إليه من تأويلات، وكلها أدلة فاسدة باطلة يصدق عليها ما ذكره الشيخ: حجج تهافتُ كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور ثم ختم طرقهم بقول: (وكل من كان بالباطل أعلم كان للحق أشد تعظيماً، وبقدره أعرف) .