وفي غزوة الأحزاب تجلت شجاعة القوم، وظهر حرصهم على الأفضل، واستعدادهم للتضحية، وأكدوا أنهم ليسوا ممن يفرطون في وطنهم، وأن هذا كان شأنهم قديمًا فعندما اجتمع المشركون، وأحاطوا بالمسلمين من كل ناحية، وآزرهم اليهود والمنافقون، استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدين "سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة" في أن يعطي غطفان ثلث ثمار المدينة على أن ترجع فرفض السعدان ذلك، وأصرا على الحرب وبينا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شأنهم قبل الإسلام، وأنهم ما ازدادوا بالإسلام إلا عزا.
عن الزهري قال: لما اشتد على الناس البلاء يوم الأحزاب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن، والحارث بن عوف المري، وهما قائدا غطفان، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهم الصلح حتى كتبوا الكتاب، ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح.
فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك بعث إلى السعدين فذكر لهما ذلك واستشارهما فيه، فقالا: يا رسول الله أمرًا تحبه فنصنعه أم شيئًا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيئًا تصنعه لنا؟
فقال صلى الله عليه وسلم:"بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما".
فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله، ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك، وبه، نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم بيننا وبينهم!
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أنت وذاك". فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال: ليجهدوا علينا١.
١ أخرجه ابن إسحاق ونقله عنه ابن كثير ٣/ ٢٠١ وهو عند عبد الرزاق في المصنف راجع الجزء الذي طبع من المصنف تحت عنوان "المغازي النبوية" لابن شهاب الزهري ص٧٩ وأخرجه ابن سعد في الطبقات ٢/ ٧٣.