وفي الوقت ذاته أراد أن يغرس في نفوس المسلمين التخلي عن منحهم الدنيوية بطواعية ليربي فيهم حب العطاء والسخاء، فبدأ صلى الله عليه وسلم بنفسه وبأهله، فقال وهو يخطب في الناس:"أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم". فتسارع القوم من المهاجرين والأنصار يتنازلون عن رغبة صادقة بما هو لهم ... إلخ.
فكان عمله صلى الله عليه وسلم هذا مثالا للتربية العملية التي جعلت الناس يتسابقون إلى العطاء دون تعلق بعرض من الدنيا زائل، ومن لم يستجب من الأعراب استوهبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على عوض سيعوضهم به.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتتبع مآرب النفس الإنسانية ويقودها إلى الخير، فلما بلغه رغبة بعض الأنصار أن يكون لهم مثل ما أخذه المؤلفة قلوبهم من العطاء بعد الغنائم، لم يستجب لهذه الرغبة وإنما عمل على تطهير نفوس الأنصار من هذه العلائق، فجمعهم وخطب فيهم، وبعد أن استثار فيهم كوامن نفوسهم قال لهم:"إن قريشًا حديث عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله إلى بيوتكم، لو سلكت الناس شعبًا وسلك الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار".
ولقد وجدنا أثر هذه التربية في وسط المسلمين في مواقف عديدة، ويكفي هنا أن نشير إلى ما حصل قبل غزوة تبوك لأنه يمثل ظاهرة حسنة هي ظاهرة الإنفاق والعطاء التي لم تكن مفروضة على الناس من قبل وإنما كان حثًّا للجميع أن يقدموا بين يدي رسول الله ما تجود به أنفسهم لتجهيز الجيش الخارج لملاقاة الروم في تبوك وقد اكتملت جوانب الظاهرة هذه بأن الذين تقدموا للإنفاق ليسوا الأغنياء فقط الذين دفعوا ما جهز به الجيش، وإنما أقبل الفقراء والنساء فدفعوا ما يمتلكون حتى أن الواحد منهم كان يأتي بنصف صاع من طعام، فهذا ما يمتلكه فيدفعه إلى جسم هذا العطاء الضخم، ومن ليس لديه أي شيء ينفقه يقوم من الليل باكيًا ثم يقول: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ثم لم تجعل ما أتقوى به مع رسولك، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها مال أو جسد أو عرض وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي بهذه الصدقة، فأعلم صاحبها بأنها قد قبلت