هذا وقد تحدث الفقهاء عن حكم هجرة المسلم من ديار الكفر إلى ديار الإسلام بعد فتح مكة، وذهبوا إلى أن المسلمين أنواع ثلاثة، ولكل نوع حكمه الشرعي. النوع الأول: مسلم قادر على الهجرة من ديار الشرك، حيث لا يمكنه إظهار دينه فيها، ولا أداء واجباته إذا أقام بين غير المسلمين، فالهجرة عليه واجبة، ويكون عاصيًا بتركها، ودليل ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: ٩٧] , وهذا الوعيد الشديد لا يكون إلا في ارتكاب المحرم وترك الواجب وحينئذ لا يحل له البقاء إلا إذا كان مضطرًا. ومن أدلة السنة المشرفة ما أخرجه النسائي بسند صحيح من حديث عبد الله بن واقد السعدي قال: "وفدنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل أصحابي فقضى حاجتهم، وكنت آخرهم دخولا فقال صلى الله عليه وسلم: "ما حاجتك"؟. قلت: يا رسول الله، متى تنقطع الهجرة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار". النوع الثاني: مسلم يوجد بين المشركين، وهو عاجز عن الهجرة، لعذر كالأسر أو المرض أو الإكراه على الإقامة، فهؤلاء ومن في حكمهم تجوز لهم الإقامة بين المشركين، ولا تجب عليهم الهجرة، فإن تحامل أحدهم على نفسه وتكلف الهجرة كانت له أجر ومثوبة. ودليل ذلك قوله سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} . النوع الثالث: المسلم فيغير بلاد الإسلام، يكون قادرًا على الهجرة، لكنه يمكنه إظهار دينه، وأداء واجباته مع إقامته بين الكفار، فهذا لا تجب عليه الهجرة لتمكنه من دعوة الكفار وهو آمن من غدرهم، وراحته النفسية والمادية مصانة بينهم، ودليل ذلك أن المسلم مكلف بالدعوة لدينه قولا، وعملا، وإقامته حينئذ دعوة عملية، وكذا ترغيب المولى عز وجل المؤمنين في الهجرة وحثهم عليها في قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ