للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَذَا وَبَيْنَ الثَّانِي أَنَّ الْمُحَرَّمَ قَائِمٌ وَفِي الثَّانِي، وَأَمَّا هَاهُنَا فَالْمُحَرَّمُ غَيْرُ قَائِمٍ حَالَ الضَّرَرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ} [الأنعام: ١١٩] فَالنَّصُّ لَيْسَ بِمُحَرِّمٍ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ (وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِصِيَانَةِ عَقْلٍ، وَلَا صِيَانَةَ عِنْدَ فَوْتِ النَّفْسِ، وَكَذَا صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رُخْصَةُ إسْقَاطٍ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ هَذِهِ صَدَقَةٌ» الْحَدِيثَ) رُوِيَ «عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ

ــ

[التلويح]

بِحُكْمِ الْأَصْلِ وَبِمِثْلِ قَوْله تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: ٢٩] بَلْ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ يَكُونُ النَّصُّ دَالًّا عَلَى عَدَمِ حُرْمَتِهَا عِنْدَ الِاضْطِرَارِ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ} [الأنعام: ١١٩] اسْتِثْنَاءٌ وَإِخْرَاجٌ عَنْ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْحُرْمَةُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ هُوَ الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي حَرَّمَ أَيْ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ الْأَشْيَاءَ الَّتِي حَرَّمَ أَكْلَهَا إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحَرَّمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُفَرَّغًا عَلَى أَنَّ " مَا " فِي " مَا اُضْطُرِرْتُمْ " مَصْدَرِيَّةٌ وَضَمِيرُ إلَيْهِ عَائِدٌ إلَى مَا حَرَّمَ أَيْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا فِي حَالِ اضْطِرَارِكُمْ إلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا حَرَّمَ لِيَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ إخْرَاجًا عَنْ حُكْمِ التَّفْصِيلِ لَا عَنْ حُكْمِ التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ الْأَحْكَامِ لَا الْإِخْبَارُ عَنْ عَدَمِ الْبَيَانِ.

لَا يُقَالُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَيْضًا مُبَاحًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: ١٠٦] ؛ لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ إلْزَامِ الْغَضَبِ لَا مِنْ التَّحْرِيمِ فَغَايَتُهُ أَنْ يُفِيدَ نَفْيَ الْغَضَبِ عَلَى الْمُكْرَهِ لَا عَدَمَ الْحُرْمَةِ.

فَإِنْ قُلْت: ذِكْرُ الْمَغْفِرَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: ١٧٣] مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْحُرْمَةَ بَاقِيَةٌ، وَأَنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ الْإِثْمُ وَالْمُؤَاخَذَةُ.

قُلْت: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْمَغْفِرَةِ بِاعْتِبَارِ مَا يَقَعُ مِنْ تَنَاوُلِ الْقَدْرِ الزَّائِدِ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ إبْقَاءُ الْمُهْجَةِ إذْ يُعْتَبَرُ عَلَى الْمُضْطَرِّ رِعَايَةُ قَدْرِ الْإِبَاحَةِ، وَأَمَّا فِي شُرْبِ الْخَمْرِ فَلِأَنَّ حُرْمَتَهَا لِصِيَانَةِ الْعَقْلِ أَيْ الْقُوَّةِ الْمُمَيِّزَةِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْحَسَنَةِ وَالْقَبِيحَةِ، وَلَا يَبْقَى ذَلِكَ عِنْدَ فَوَاتِ النَّفْسِ أَيْ الْبِنْيَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ لِفَوَاتِ الْقُوَى الْقَائِمَةِ بِهَا عِنْدَ فَوَاتِهَا وَانْحِلَالِ تَرْكِيبِهَا، وَإِنْ كَانَتْ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ الَّتِي هِيَ الرُّوحُ بَاقِيَةً وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ حُرْمَةَ الْمَيْتَةِ لِصِيَانَةِ النَّفْسِ عَنْ تَغَذِّي خَبَثِ الْمَيْتَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: ١٥٧] ، فَإِذَا خَافَ بِالِامْتِنَاعِ فَوَاتَ النَّفْسِ لَمْ يَسْتَقِمْ صِيَانَةُ الْبَعْضِ بِفَوَاتِ الْكُلِّ إذْ فِي فَوَاتِ الْكُلِّ فَوَاتُ الْبَعْضِ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالنَّفْسِ أَوَّلًا الْبَدَنَ وَثَانِيًا الْمَجْمُوعَ الْمُرَكَّبَ مِنْ الْبَدَنِ وَالرُّوحِ وَبِفَوَاتِهَا مُفَارَقَةُ الرُّوحِ وَانْحِلَالَ تَرْكِيبِ الْبَدَنِ.

(قَوْلُهُ: رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) الرَّاوِي هُوَ عَلِيُّ بْنُ رَبِيعَةَ الْوَالِبِيُّ قَالَ سَأَلْت عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَا بَالُنَا نَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَلَا نَخَافُ شَيْئًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: ١٠١] فَقَالَ أَشْكَلَ عَلَيَّ مَا أَشْكَلَ عَلَيْك فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «إنَّ هَذِهِ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ

<<  <  ج: ص:  >  >>