فَنِهَايَةُ دَرْكِ الْحَوَاسِّ هِيَ بِدَايَةُ الْإِدْرَاكِ الْعَقْلِيِّ فَاعْلَمْ أَنَّ بِدَايَةَ دَرْكِ الْحَوَاسِّ ارْتِسَامُ الْمَحْسُوسَاتِ فِي إحْدَى الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، وَنِهَايَتُهُ ارْتِسَامُهُ فِي الْحَوَاسِّ الْبَاطِنَةِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْحَوَاسَّ الْبَاطِنَةَ خَمْسٌ: الْحِسُّ الْمُشْتَرَكُ فِي مُقَدَّمِ الدِّمَاغِ، وَهُوَ الَّذِي يَرْتَسِمُ فِيهِ صُوَرُ الْمَحْسُوسَاتِ ثُمَّ الْخَيَّالُ، وَهُوَ خِزَانَةُ الْحِسِّ الْمُشْتَرَكِ ثُمَّ الْوَهْمُ فِي مُؤَخَّرِ الدِّمَاغِ يَرْتَسِمُ فِيهِ الْمَعَانِي الْجُزْئِيَّةُ ثُمَّ بَعْدَهُ الْحَافِظَةُ، وَهِيَ خِزَانَةُ الْوَهْمِ ثُمَّ الْمُفَكِّرَةُ فِي وَسَطِ الدِّمَاغِ تَأْخُذُ الْمُدْرَكَاتِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ وَتَتَصَرَّفُ فِيهَا، وَتُرَكِّبُ بَيْنَهَا تَرْكِيبًا، وَتُسَمَّى مُخَيِّلَةً أَيْضًا فَهَذَا نِهَايَةُ إدْرَاكِ الْحَوَاسِّ فَإِذَا تَمَّ هَذَا انْتَزَعَ
ــ
[التلويح]
وَلِلْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ فِي تَصَرُّفَاتِهَا فِي الضَّرُورِيَّاتِ، وَتَرْتِيبِهَا لِاكْتِسَابِ الْكِمَالَاتِ أَرْبَعُ مَرَاتِبِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّفْسَ مَبْدَأَ الْفِطْرَةِ خَالِيَةٌ عَنْ الْعُلُومِ مُسْتَعِدَّةٌ لَهَا، وَتُسَمَّى حِينَئِذٍ عَقْلًا هَيُولَانِيًّا تَشْبِيهًا لَهَا بِالْهُيُولِيِّ الْأُولَى الْخَالِيَةِ فِي نَفْسِهَا عَنْ جَمِيعِ الصُّوَرِ الْقَابِلَةِ لَهَا، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اسْتِعْدَادِ الطِّفْلِ لِلْكِتَابَةِ ثُمَّ إذَا أَدْرَكَتْ الضَّرُورِيَّاتِ، وَاسْتَعَدَّتْ لِحُصُولِ النَّظَرِيَّاتِ سُمِّيَتْ عَقْلًا بِالْمَلَكَةِ لِحُصُولِ مَلَكَةِ الِانْتِقَالِ كَاسْتِعْدَادِ الْأُمِّيِّ لِتَعَلُّمِ الْكِتَابَةِ ثُمَّ إذَا أَدْرَكَتْ النَّظَرِيَّاتِ، وَحَصَلَ لَهَا الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِحْضَارِهَا مَتَى شَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَجَسُّمِ كَسْبٍ جَدِيدٍ سُمِّيَتْ عَقْلًا بِالْفِعْلِ لِشِدَّةِ قُرْبِهِ مِنْ الْفِعْلِ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اسْتِعْدَادِ الْقَادِرِ عَلَى الْكِتَابَةِ الَّذِي لَا يَكْتُبُ، وَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ مَتَى شَاءَ، وَإِذَا كَانَتْ النَّظَرِيَّاتُ حَاضِرَةً عِنْدَهَا مُشَاهِدَةً لَهَا سُمِّيَتْ عَقْلًا مُسْتَفَادًا لِاسْتِفَادَةِ هَذِهِ الْقُوَّةِ وَالْحَالَةِ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الشَّخْصِ حِينَمَا يَكْتُبُ بِالْفِعْلِ، وَعِبَارَةُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ الْعَقْلَ الْمُسْتَفَادَ هُوَ حُضُورُ الْيَقِينِيَّاتِ، وَحُصُولُ صُوَرِ الْمَعْقُولَاتِ لِلنَّفْسِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ التَّسْمِيَةِ بِالْمُسْتَفَادِ، وَأَنَّ الْعَقْلَ الْهَيُولَانِيَّ يَكُونُ قَبْلَ اسْتِعْمَالِ الْحَوَاسِّ، وَإِدْرَاكِ الضَّرُورِيَّاتِ، وَالْعَقْلَ بِالْمَلَكَةِ بَعْدَهُ وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جَعَلَ الْهَيُولَانِيَّ اسْتِعْدَادَ النَّفْسِ لِلِانْتِزَاعِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَحْسُوسَاتِ. وَالْعَقْلُ بِالْمَلَكَةِ عِلْمُ الْبَدِيهَاتِ عَلَى وَجْهٍ يُوصِلُ إلَى النَّظَرِيَّاتِ أَيْ مُتَرَتِّبَةٌ لِلتَّأَدِّي إلَى الْمَجْهُولَاتِ النَّظَرِيَّةِ، وَأَمَّا جَعْلُ الْمُسْتَفَادِ نِهَايَةً، وَمَرْتَبَةً رَابِعَةً فَإِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْغَايَةِ، وَكَوْنِهِ الرَّئِيسَ الْمُطْلَقَ الَّذِي يَخْدُمُهُ سَائِرُ الْقُوَى، وَإِلَّا فَالْمُسْتَفَادُ مُقَدَّمٌ بِحَسَبِ الْوُجُودِ عَلَى الْعَقْلِ بِالْفِعْلِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ التَّحْصِيلِ، وَالْإِحْضَارِ مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ ثُمَّ هَذِهِ الْمَرَاتِبُ اسْتِعْدَادَاتٌ لِلنَّفْسِ مُخْتَلِفَةٌ بِالشِّدَّةِ وَالضَّعْفِ كَالثَّلَاثِ الْأُوَلِ أَوْ كَمَالٌ لَهَا كَالرَّابِعَةِ وَتُطْلَقُ عَلَى النَّفْسِ بِحَسَبِ مَا لَهَا مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لِلنَّفْسِ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ قُوَّةً لَمْ تَكُنْ قَبْلُ فَيُطْلَقُ عَلَى نَفْسِ الْقُوَى أَيْضًا، وَنَعْنِي بِالْقُوَّةِ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ يَصِيرُ الشَّيْءُ فَاعِلًا أَوْ مُنْفَعِلًا، وَجَعَلُوا الْمَرْتَبَةَ الثَّانِيَةَ، وَهِيَ أَنْ تُدْرِكَ الْبَدِيهَاتِ مُرَتَّبَةً عَلَى وَجْهٍ تُوصِلُ إلَى النَّظَرِيَّاتِ مَنَاطَ التَّكْلِيفِ إذْ بِهَا يَرْتَفِعُ الْإِنْسَانُ عَنْ دَرَجَةِ الْبَهَائِمِ، وَيُشْرِقُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute