الْعَقْلِ، وَعَدَمَهُ يُعْرَفَانِ بِالْأَفْعَالِ (ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْعَقْلُ مُتَفَاوِتًا فِي أَفْرَادِ النَّاسِ) ، وَذَلِكَ التَّفَاوُتُ إنَّمَا يَكُونُ لِزِيَادَةِ قَابِلِيَّةِ بَعْضِ النُّفُوسِ ذَلِكَ الْفَيْضَ وَالْإِشْرَاقَ لِشِدَّةِ صَفَائِهَا وَلَطَافَتِهَا فِي مَبْدَأِ الْفِطْرَةِ، وَنُقْصَانِ قَابِلِيَّةِ بَعْضِهَا لِكُدُورَتِهَا، وَكَثَافَتِهَا فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ (مُتَدَرِّجًا مِنْ النُّقْصَانِ إلَى الْكَمَالِ) بِوَاسِطَةِ كَثْرَةِ الْعُلُومِ، وَرُسُوخِ الْمَلَكَاتِ الْمَحْمُودَةِ فِيهَا فَتَصِيرُ أَشَدَّ تَنَاسُبًا بِذَلِكَ الْجَوْهَرِ، وَيَزْدَادُ اسْتِضَاءَتُهَا بِأَنْوَارِهِ، وَاسْتِفَادَتِهَا مَغَانِمَ آثَارِهِ فَالْقَابِلِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ
ــ
[التلويح]
طَرِيقَ إدْرَاكِ الْمَحْسُوسَاتِ مِمَّا يَسْلُكُهُ الْعُقَلَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالْمَجَانِينُ بَلْ الْبَهَائِمُ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى الْعَقْلِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ ثُمَّ انْتَهَى ذَلِكَ الطَّرِيقُ، وَأُرِيدَ سُلُوكُ طَرِيقِ إدْرَاكِ الْكُلِّيَّاتِ، وَاكْتِسَابِ النَّظَرِيَّاتِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ قُوَّةٍ بِهَا يُتَمَكَّنُ مِنْ سُلُوكِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ فَهِيَ نُورٌ لِلنَّفْسِ بِهِ تَهْتَدِي أَيْ سُلُوكُهُ بِمَنْزِلَةِ نُورِ الشَّمْسِ فِي إدْرَاكِ الْمُبْصِرَاتِ فَإِذَا ابْتَدَأَ الْإِنْسَانُ بِذَلِكَ الطَّرِيقِ، وَشَرَعَ فِيهِ، وَرَتَّبَ الْمُقَدَّمَاتِ عَلَى مَا يَنْبَغِي يَتَبَدَّى الْمَطْلُوبُ لِلْقَلْبِ بِفَيْضِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ.
(قَوْلُهُ: ثُمَّ مَعْلُومَاتُ النَّفْسِ) يُرِيدُ بِهَذَا الْكَلَامِ الْإِشَارَةَ إلَى طَرِيقِ مَعْرِفَةِ حُصُولِ ذَلِكَ النُّورِ فِي الْإِنْسَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْجُودَ إذَا لَمْ يَكُنْ بِاخْتِيَارِنَا أَثَرٌ فِي وُجُودِهِ يُسَمَّى الْعِلْمُ بِهِ نَظَرِيًّا، وَإِلَّا فَعِلْمِيًّا لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ عَمَلٌ بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ عِلْمٌ بِأَشْيَاءَ تَتَعَلَّقُ بِالْعَمَلِ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَنْقَسِمُ الْحِكْمَةُ إلَى النَّظَرِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، وَيَحْصُلُ لِلنَّفْسِ الْقُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ وَالْقُوَّةُ الْعَمَلِيَّةُ، وَالْأُولَى مُكَمِّلَةٌ لِلنَّفْسِ وَالثَّانِيَةُ مُكَمِّلَةٌ لِلنَّفْسِ وَالْبَدَنِ بِتَحْرِيكِ الْبَدَنِ عَنْ الشُّرُورِ إلَى الْخَيْرَاتِ، وَهَذَا التَّحْرِيكُ يَسْتَلْزِمُ الْمَعْرِفَةَ بِالْخَيْرِ، وَالشَّرِّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمَا خَيْرٌ وَشَرٌّ، وَبِالْعَكْسِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الشُّرُورَ مُسْتَلَذَّاتُ الْبَدَنِ، وَمُلَاءَمَاتُ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبُ وَالْخَيْرَاتُ مَشَاقٌّ وَتَكَالِيفُ وَمُخَالِفَاتٌ لِلْهَوَى فَلَا يُتَصَوَّرُ الْمَيْلُ عَنْ الْمُلَائِمِ إلَى الْمُنَافِرِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ شَرٌّ وَالثَّانِيَ خَيْرٌ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْخَيْرَ وَالْكَمَالَ مَحْبُوبٌ بِالذَّاتِ، وَالنَّفْسُ مَائِلَةٌ إلَى الْكَمَالَاتِ مُهَيَّأَةٌ لِتَطْوِيعِ الْقُوَى وَأَمْرِهَا بِالْخَيْرَاتِ فَإِذَا اكْتَسَبَتْ الْعِلْمَ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَعَرَفَتْهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُمَا خَيْرٌ وَشَرٌّ حَرَّكَتْ الْبَدَنَ نَحْوَ الْخَيْرِ لَا مَحَالَةَ ثُمَّ مَعْرِفَةُ الْخَيْرَاتِ وَالشُّرُورِ تَسْتَلْزِمُ قَابِلِيَّةَ النَّفْسِ لِإِشْرَاقِ نُورِ الْعَقْلِ عَلَيْهَا بِمَعْنَى حُصُولِ الشَّرَائِطِ، وَارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ مِنْ جَانِبِهَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَالْقَابِلِيَّةُ تَسْتَلْزِمُ الْمَعْرِفَةَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَوْهَرَ الْمُفِيضَ دَائِمُ الْإِشْرَاقِ لَا انْقِطَاعَ لِفَيْضِهِ، وَلَا ضِنَّةَ مِنْ جَانِبِهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّمْسِ فِي الْإِضَاءَةِ فَيَكُونُ بَيْنَ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكِ الشُّرُورِ وَبَيْنَ الْقَابِلِيَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِالْعَقْلِ تَلَازُمٌ فَيُسْتَدَلُّ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ عَلَى وُجُودِ الْعَقْلِ اسْتِدْلَالًا بِوُجُودِ الْمَلْزُومِ عَلَى وُجُودِ اللَّازِمِ وَيُسْتَدَلُّ مِنْ تَرْكِ الْخَيْرَاتِ عَلَى عَدَمِ الْعَقْلِ اسْتِدْلَالًا مِنْ عَدَمِ اللَّازِمِ عَلَى عَدَمِ الْمَلْزُومِ.
(قَوْلُهُ ثُمَّ لَمَّا كَانَ) يَعْنِي أَنَّ الْعَقْلَ مُتَفَاوِتٌ فِي أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ حُدُوثًا، وَبَقَاءً أَمَّا حُدُوثًا فَلِأَنَّ النُّفُوسَ مُتَفَاوِتَةٌ بِحَسَبِ الْفِطْرَةِ فِي الْكَمَالِ وَالنُّقْصَانِ بِاعْتِبَارِ زِيَادَةِ اعْتِدَالِ الْبَدَنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute